ليس صدفة أن يختار الرئيس العراقي الدكتور برهم صالح، مقر قيادة جهاز مكافحة الإرهاب العراقي، ليؤكد التزام الرئاسات الثلاث والقوى السياسية الكبرى بمرجعية الدولة وسيادة القانون في معالجة التحديات التي يواجهها العراق، في هذه المرحلة الحساسة. موقف الرئيس صالح اللافت للانتباه يكشف مدى حرص هذه القيادات على استقرار العراق وضرورة إبعاده عن أزمات المنطقة. فمن على منبر جهاز مكافحة الإرهاب، وفي المكان الذي يُجمع غالبية العراقيين على رمزيته الوطنية الجامعة، أعلن الرئيس صالح «أن في هذه الظروف الحساسة بالغة التعقيد في المنطقة، واجبنا أن ننأى ببلدنا عن التورط في صراعات، العراقيون في غنى عنها، وكفى بالعراق أن يكون ساحة لحروب الآخرين، ولن نحارب بالوكالة عن الآخرين». فأمام جنرالات أقوى وحدة قتالية في القوات المسلحة العراقية، وضع برهم صالح يده على الجرح العراقي النازف منذ أن تحول العراق ما بعد 2003 إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية، أدت إلى تحطيم مشروع إعادة بناء الدولة التي استغلتها أحزاب السلطة لصالح مشروعاتها الضيقة، فأوصلت العراق إلى حافة الدول الفاشلة، ما تسبب بردة فعل شعبية غاضبة، خصوصاً في الشارع الشيعي الذي بات أكثر وعياً لموقعه ودوره، وأهمية تمسكه بالمؤسسات الشرعية، وأعاد ترتيب أولوياته الوطنية، بعدما دفع وبقية المكونات العراقية ثمن التجربة الفاشلة للأحزاب الدينية وارتباطاتها الخارجية على حساب المصالح الوطنية. فمما لا شك فيه أن الأزمة الأخيرة بين الحكومة العراقية و«الحشد الشعبي» نشأت نتيجة تعرضه لضغوط داخلية تطالبه بضرورة الاندماج في المؤسسات الرسمية والالتزام الكامل بالقرار السيادي العراقي، والابتعاد عن الاصطفافات العقائدية العابرة للحدود، وعدم ربط مصير العراق بمصير الصراعات الإقليمية، وفي هذا الصدد يقول رئيس المجلس الاستشاري العراقي دكتور فرهاد علم الدين، «العراق في وضعه الحالي ليس بإمكانه أن يصبح طرفاً، وهذا ما أدركته المرجعية العليا في النجف والرئاسات الثلاث والحكومة، إذ فضل هؤلاء جميعاً أن يكون (العراق أولاً) في سياستهم المتبعة، وعليهم أن يستمروا بهذه السياسة، لأن الشعب العراقي بكامل مكوناته لا يتحمل المزيد من الحروب والمآسي والدمار التي شهدها خلال الأعوام الخمسين الماضية، وليس عليهم أن يعيشوا حالة الحرب لعقود أخرى».
حالة الحرب التي يعيشها العراق، والتي تتصاعد حدتها في هذه المرحلة، نتيجة محاولات أطراف من «الحشد الشعبي» زجه فيها بسبب عمق ارتباطه الخارجي، كانت أيضاً في صلب خطاب زعيم «تيار الحكمة الوطني» السيد عمار الحكيم الذي اختار الانتقال إلى صفوف المعارضة مكملاً مشروع تمرده على نظام 2003 الذي حكم العراق، بصيغة توافقية مكنته من تعطيل مسار الديمقراطية واختزال الحياة السياسية بمنظومة توافقات مصلحية، حولت الدولة وإمكاناتها إلى غنيمة تتقاسمها القوى النافذة التي وصلت إلى السلطة نتيجة تسوية أميركية إيرانية لم تزل مستمرة، رغم أساساتها غير السليمة، أعاقت قيام أغلبية حاكمة وأقلية معارضة تحت سقف الدولة.
ففي خطابه أمام حشد من جمهور «تيار الحكمة» بمناسبة الأول من شهر محرم، أعلن الحكيم رفضه أن يكون العراق مخزناً للسلاح، داعياً إلى الحفاظ على الدولة العراقية، وعدم السماح لأي انتهاك من شأنه المساس بالدولة، فالحكيم الذي رفع مبكراً شعار حصر السلاح بيد الدولة غمز من قناة «الحشد الشعبي»، وتماسكه، ووحدة قراره، وقيادته، والتزامه بالقانون، مطالباً الجميع بالالتزام بمرجعية الدولة، حيث قال: «ندرك بوضوح وعمق المحاولات التي تريد جرّ العراق ليكون ساحة حرب لا مركز استقرار، ونقول لكل تلك المحاولات إن العراق سيندفع باتجاه الخطوات التي تحقق مصالحه الوطنية، وسيادته، وقوته، وعزة شعبه، ولن يخوض حروباً بالوكالة، فقد أفنى العراقيون أعمارهم في تلك الحروب العبثية».
وعليه، فإن المشهد العراقي ينبئ بتبلور مرحلة أشبه بالانقلابية على المسارات السابقة، حيث رسم الرئيس صالح أول ملامحها عندما ربط قوة موقف الدولة ورئاساتها الثلاث برمزية المكان الذي أُطلق منه، فيما اختار عمار الحكيم اللجوء هذه المرة إلى قوة الشارع من أجل تثبيت موقعه الجديد في المعارضة التي يمكن أن تتوسع لتصبح جبهة معارضة وطنية وحكومة ظل بوجه حكومة قوى الموالاة، ففي العراق الذي يحاول اجتياز الأزمة بأقل الخسائر الممكنة تعرف الأطراف كافة ارتفاع تكلفة الفشل، وحجم التهديدات التي ستنتج عن سقوط مشروع الدولة، أو نتيجة فراغ قد لا تستطيع المعارضة ملأه لحظة سقوط التسوية.
الشرق الأوسط