إن مراقبة التصرفات الإيرانية وتحركاتها الأمنية والاستخباراتية والعسكرية في دول المشرق وخصوصاً في العراق وسوريا، وتحديداً في لبنان وتحليلها، إن دلّا على شيء فعلى وجود إستراتيجية للنظام الإيراني لاستخدام المواجهة مع إسرائيل كوسيلة لإسقاط التحركات الأميركية في المنطقة وإجهاضها والإفلات من العقوبات الصارمة، وإنهاء تعبئة دول التحالف العربي ضد إيران وحلفاء طهران في المنطقة ككل، وهذه هي النقاط الرئيسة في التحليل الحالي لما تقوم به طهران على جبهة مواجهتها مع إسرائيل.
إذاً بتقديرنا، فالانفلاش الإيراني الإستراتيجي في ما كان يعرف بالهلال الخصيب، وإن قيل عنه إنه يتمدد باتجاه البحر الأبيض المتوسط فهو أساساً فك كماشة أرضية لإسقاط الأنظمة في الخليج.
اعتمدت إيران على نشر الميليشيات الموالية لها في الدول الثلاث في غربها: العراق وسوريا ولبنان كوسيلة أساسية من أجل السيطرة على هذه الدول الثلاث والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، ولكن هناك هدف إستراتيجي آخر لم ينتبه إليه المحللون كفاية وهو مدّ خطوط إستراتيجية تحاصر السعودية من الشمال عبر الحدود العراقية وامتدادها في سوريا ولبنان.
الجيش الإسرائيلي يستعد لمختلف السيناريوهات ويعزز قواته عند الحدود مع لبنان
إذاً، هذه الميليشيات إذ تسيطر على هذه الدول الثلاث هي أيضاً تحاول السيطرة على تلك الحدود من أجل إقامة توازن إستراتيجي ضد التحالف العربي أولاً عبر الخليج بواسطة الصواريخ ولكنه بشكل أخطر عبر الحدود الشمالية للجزيرة العربية من خلال قوات مباشرة على الأرض إضافة إلى الصواريخ التي تنصبها في هذه الدول الثلاث.
وبما أن مواجهةً إيرانية عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية هي في غاية الصعوبة وفيها من المخاطرة الإستراتيجية الكبرى، ربما قد اعتمدت إيران على خطة أخرى تستهدف من خلالها إسقاط الدور الأميركي عبر إسقاط المحور العربي فيه، وذلك عبر تفجير صراع جانبي إقليمي مع إسرائيل، هو بإمكانه أن يخلط الأوراق في المنطقة من جديد.
إلا أن انتشار القوات الأميركية الجديد هذا العام من حاملة طائرات وقاذفات وقوات خاصة عبر الخليج بعد الانسحاب الذي أمره الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الاتفاق الإيراني بالإضافة إلى تعزيز القوات الأميركية في سوريا وفي العراق، هذا يقلق طهران في عمليتها لتطويق الدول الخليجية، وبالتالي فإن الهدف الإستراتيجي الأساسي لنظام الخميني هو عملياً ضرب الوجود الأميركي وإجلاؤه من المنطقة للتمكن من محاصرة الجزيرة العربية من شمالها.
وتعتمد العقيدة العسكرية الإيرانية على إشعال الجبهة الأمنية في لبنان وسوريا مع الإسرائيليين، ما يسمح لهم، بحسب اعتقادهم، بإسقاط الورقة العربية، فهم يعتقدون، وقد نجحوا بذلك في الماضي، بأن أي مواجهة مع إسرائيل من قبل الأطراف المؤيدة لإيران أكانت حزب الله في لبنان أو نظام الأسد في سوريا إنما يتكفل بتعطيل أي دور للتحالف العربي بمواجهة إيران من ناحية وبالسماح للقوات الأميركية بأن تلعب دوراً في هذه المواجهة.
إذاً ما تحاول أن تقوم به إيران منذ أسابيع وأشهر هو إشعال مواجهة مع الإسرائيليين من أجل التوصل إلى حالة صدام، وإن كانت محدودة ومن الممكن السيطرة عليها عندما تؤدي إلى أهدافها. ومن بين أهدافها تعطيل الدور الأميركي العربي ما دامت هناك مواجهات إيرانية إسرائيلية.
طهران تعلم تماماً أن إدخال منظومات صواريخ إلى الدول الثلاث، العراق سوريا ولبنان هو نوع من دعوة غير مباشرة إلى الإسرائيليين لكي يقعوا في فخ التعامل مع هذه البطاريات بشكل أوتوماتيكي.
وقد رأينا أن هذه المنصات التي زرعت في العراق وسوريا وفي لبنان باتت تتحول إلى أهداف عسكرية للطيران الإسرائيلي، وبهذا نجحت طهران بأن تستدرج إسرائيل لضرب هذه المنشآت الصاروخية، وهي كانت تقوم بذلك في سوريا بشكل دوري، إلا أن العملية الإسرائيلية الأخيرة ضد قاعدة للحرس الثوري وللأسلحة الإيرانية في العراق قد جلبت إسرائيل إلى العمق الإيراني في العراق ما لم يكن قائماً في الماضي.
ومن المحتمل أن تحاول إيران أن تستدرج القوة العسكرية الإسرائيلية إلى عمق العراق وسوريا، ولكن الأسهل بالنسبة إلى إيران هو أن تطلب من حزب الله أن يدفع بإسرائيل إلى الساحة اللبنانية من جديد، ويمكّن حزب الله من أن يرد على الإسرائيليين داخل إسرائيل نفسها، وبالتالي يتم إشعال حريق ما بين القوى الممسوكة من إيران وإسرائيل في طول ثلاث دول وعرضها، إلا أن هذه المواجهة ستكون محدودة على الطيران والدرون والصواريخ.
قد تربح إسرائيل جولة التفوق الإلكتروني إلى حدّ ما، ولكن إيران سوف تكسب تغيير المعادلة في المنطقة وتعبئة الرأي العام العربي والإسلامي لهذه المجابهة، وأهم من ذلك حشر دول التحالف العربي في موقع دفاعي. وسوف تصور نفسها بأنها هي المدافعة عن المنطقة وأن دول التحالف العربي متحالفة مع أميركا المتحالفة مع إسرائيل.
وما الاشتباكات الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله إلا بداية ما قد يكون خطة إيرانية محكمة لافتعال اشتباك إقليمي مع إسرائيل، مع حسابات دقيقة تنطلق من أن تعلن إدارة ترمب دعمها حكومة نتنياهو في هذه المواجهة مسقطة، على حسب ما يعتقد الإيرانيون، الورقة العربية، إذ إن طهران تعتبر أن السعودية والإمارات وحلفاءهما سوف يكونون في موقف صعب إذا اندلعت نيران المواجهة بين ما يسمى المقاومة في لبنان، فيتم استدراج الجيش اللبناني، وبالإضافة الجيش العراقي والميليشيات المؤيدة لإيران والنظام السوري جميعاً في مواجهة إسرائيل.
هنا تتحول إسرائيل عملياً وبشكل ربما غريب إلى سلاح يستعمله الإيرانيون ضد التحالف العربي وحتى ضد الدور الأميركي.
هذه الخطة الإستراتيجية تبدو ناجحة بحسب التطورات الأخيرة إلا أن هناك حدوداً لهذه الخطة ومخاطر ربما قد تقبلها طهران ولكن قد تنقلب عليها.
الخطر الأول والأساس هو أن تفقد إيران قدرتها على السيطرة على هكذا مجابهة، إذ إن طهران تعتقد أن بإمكانها كما فعل حزب الله عام 2006 أن تصعّد مع إسرائيل فتحصل على الصورة الإعلامية التي تريدها وتسقط الأصوات العربية والدولية بحقها وتسقط العقوبات وتتحصّن بهذه المواجهة باتفاق وقف إطلاق نار وتدخّل الأمم المتحدة.
هذا هو التصور الإيراني، ولكن هناك ربما سيناريو آخر قد يحصل، وهو أن تفقد إيران قدرتها على السيطرة على ردود الفعل الإسرائيلية والعربية والأميركية، فالمواجهة التي قد تفتحها قد تتحول إلى مواجهة غير متناهية مع قدراتها العسكرية وتصل ليس فقط إلى القوات الإيرانية المنتشرة في الدول الثلاث ولكن إلى العمق الإيراني نفسه.
الخطر الثاني الأعمق على خطة إيرانية كهذه لاستعمال إسرائيل في مواجهتها للتحالف العربي، هو احتمال أن تستفيد المعارضات المضادة لإيران في المنطقة بدءاً من بيروت وسوريا إلى بغداد إلى العمق الإيراني نفسه من المجابهة العسكرية لكي تنتفض وتعطل القدرات الإيرانية بحدّ ذاتها في طول المنطقة وعرضها.
إذاً، اليوم طهران هي في سباق بين خطتها لمواجهة مع إسرائيل قد تفيدها وبين هذه الخطة نفسها التي قد تقود إلى انهيار قدرتها في المنطقة، فما يا ترى يُخبئ المستقبل لإيران؟
اندبندت العربي