لم تعرف دولة إسرائيل السلام إلا في حالات نادرة. ويمكن القول إنها في أفضل الأحوال تنعّمت بفترات وجيزة من الهدوء فيما بين الصراعات المتفرقة. ولهذه الفترات مكانةٌ خاصة في قلوب الإسرائيليين، فهي أشبه بالحاضنات التي ينبثق منها النمو الاستثنائي للبلاد. ومع ذلك، يستغل أعداء إسرائيل هذه الفترات أيضاً في كثير من الأحيان، ويستفيدون منها لإعادة تموين ترسانتهم وتطوير تكتيكاتهم وإمكانياتهم.
وتنبع معظم التحديات الأمنية الحالية لإسرائيل من تهديد واحد، وهو مطامع الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط. ولا تتجلى هذه المطامع في أنشطة النظام النووية العسكرية فحسب، بل في مساعيه لنشر الأسلحة وبناء محاور نفوذ في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة ومناطق أخرى أيضاً. وعلى وجه الخصوص، سعت إيران إلى تحسين ترسانتها من الصواريخ الدقيقة ونيران المواجهة الأخرى وتوسيعها، ويعود ذلك جزئياً من أجل تصدير هذه الأسلحة إلى الفصائل الشيعية المسلحة في جميع أنحاء المنطقة.
ولكي تواجه إسرائيل مثل هذه التهديدات وتعزز في الوقت نفسه قدرتها على التطور في أوقات الهدوء، دأبت إلى الحفاظ على ما تعتبره روتيناً أمنياً معقولاً. وجرت العادة بتطبيق هذا الروتين من خلال العمليات الدفاعية المناطقية والمساعي التي تهدف إلى إبطال التهديدات دون أن ترقى إلى مستوى الحرب. ولكن تم تعزيز هذا الروتين في الآونة الأخيرة من خلال ما أسماه “جيش الدفاع الإسرائيلي” بـ “الحملة بين الحروب”.
لماذا تحوّلت إسرائيل إلى “الحملة بين الحروب”؟
طيلة سنوات عديدة، تميزت الأنشطة العسكرية الإسرائيلية بمرحلتين مترابطتين: الأولى هي التحضير للحروب بما يشمله ذلك من تطوير المفاهيم العملياتية ضد الأعداء، وآليات بناء القوة اللازمة للمشتريات وتطوير الأسلحة، فضلاً عن تدريب العناصر وتنظيمهم، وقد بلغت جميعها ذروتها في الاستعدادات النهائية للصراعات الوشيكة. وتتعلق المرحلة الثانية باستخدام القوة أثناء الحرب ودعم الجهود القتالية. وحتى العقد الماضي، كانت إسرائيل تشعر بأنها مضطرة إلى التركيز بشكل شبه حصري على هاتين المرحلتين من أجل الدفاع عن حدودها والتصدي للتهديدات الإرهابية الخارجية.
وفي الوقت نفسه، كانت طبيعة التهديدات التي يتعرض لها أمن إسرائيل تتغير بشكل كبير. فقد أدى ضعف الدول العربية وجيوشها إلى نشوء واقعٍ تطورت فيه التهديدات التقليدية وغير التقليدية ودون التقليدية (أي المنظمات الإرهابية والمنظمات شبه العسكرية) في آن واحد. وفي حين كانت قوة إسرائيل لا تزال ظاهرة بسهولة مع بداية العقد السابع من وجودها، إلّا أن بروز تحديات جديدة والدمار الذي خلّفته حرب لبنان في عام 2006 قد حفزت “الجيش الإسرائيلي” على بلورة مفهوم للحرب الوقائية المتكاملة المنخفضة الكثافة، هو “الحملة بين الحروب”.
وتشكّل “الحملة بين الحروب” تغييراً جوهرياً في نمط العمليات الأمنية الإسرائيلية على مدار الثلاثة عشر عاماً الماضية، وهي إحدى العوامل الرئيسية التي ساهمت في إطالة فترة الهدوء النسبي الذي تتمتع به البلاد على طول حدودها الشمالية. فهذا المفهوم يبتعد عن المقاربة الثنائية المتمثلة في الاستعداد للحرب أو شنها علناً، ويقوم على اتخاذ إجراءات هجومية استباقية تستند إلى معلومات استخبارية عالية الجودة وجهودٍ سرية. إن الأهداف الرئيسية لهذه الاستراتيجية واضحة، وهي:
تأخير نشوب الحرب وردع الأعداء عبر المثابرة على إضعاف آليات تعزيز قوتهم وإلحاق الضرر بأصولهم وقدراتهم.
ترسيخ شرعية إسرائيل لممارسة القوة مع الإضرار في الوقت نفسه بشرعية العدو، وذلك جزئياً من خلال فضح الأنشطة العسكرية السرية التي تنتهك القانون الدولي.
تأمين الظروف المثلى لـ “الجيش الإسرائيلي” إذا نشبت الحرب في النهاية.
وأدى تطوير مفهوم “الحملة بين الحروب” ونجاحه إلى تصريح عقيدة عسكرية جديدة لدى “الجيش الإسرائيلي” – وهي مبدأ أضفى الطابع المؤسسي على المفهوم ضمن الأنشطة العملياتية الإسرائيلية وحدد كيفية دمجه في استراتيجية مختلف المؤسسات الأمنية وأهدافها وإدارتها خلال تعاونها مع بعضها البعض ومع نظيراتها في الخارج. كما أن مفهوم “الحملة بين الحروب” جمع المكونات السرية والحرب المعرفية مع الجهود الأمنية والاقتصادية والسياسية الدولية، كل ذلك بهدف ممارسة السلطة اللازمة للدفاع عن مصالح إسرائيل الأمنية دون تصعيد الموقف والوصول إلى الحرب.
ما الذي أنجزته الحملة؟
خلال السنوات القليلة الماضية، كانت حدود إسرائيل الشمالية محور الجهود التي بذلها “الجيش الإسرائيلي” لردع «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني وإحباط أعماله الرامية إلى تحويل الحدود اللبنانية والسورية إلى قاعدة لشن عمليات ضد إسرائيل. ففي سوريا، عمل “الجيش الإسرائيلي” على منع إيران من ترسيخ وجودها وتحصين وكلائها الخارجيين، ونشر أسلحة متطورة، وتحويل مرتفعات الجولان إلى جبهة أخرى لضرب إسرائيل. وفي لبنان، حقق “الجيش الإسرائيلي” إنجازات لافتة بعد إطلاق “عملية درع الشمال” في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وتحديداً إبطال خطة «حزب الله»/«فيلق القدس» لمهاجمة الجليل عبر أنفاق تحت الأرض ومنع تطوير قدرات صنع الصواريخ الدقيقة التي من شأنها أن تشكل تهديداً استراتيجياً خطيراً على إسرائيل. ويمكن اعتبار الهجوم الأخير بالطائرات بدون طيار، وفقاً لبعض التقارير، الذي استهدف الأصول الصاروخية لـ”حزب الله” في بيروت تدبيراً مدروساً ودقيقاً آخر تتخذه إسرائيل لإحباط الجهود الاستراتيجية لأعدائها. كما شهدت المنطقة مساهمات مهمة من “الجيش الإسرائيلي” في الحملة الإقليمية ضد تنظيمَي “«الدولة الإسلامية» و «القاعدة».
ولكن بالرغم من نية الردع المضمّنة في مفهوم “الحملة بين الحروب”، فإن استخدام عبارة “بين الحروب” متعمداً للغاية – ذلك أن القيادات العسكرية والسياسية في إسرائيل تدرك جيداً أن هذا النمط من العمل ينطوي على مخاطر واحتكاكات قد تشعل مواجهة عسكرية أوسع نطاقاً أو حتى حرباً شاملة. وتبعاً لذلك، عملت إسرائيل عند التخطيط لمختلف عمليات هذه الحملة على اتّباع منهج صارم لإدارة المخاطر من أجل الأخذ في الحسبان وتيرة التصعيد التي يحتمل أن تكون سريعة، وتقليص احتمال نشوب الحرب. وفي الوقت نفسه، واصل “الجيش الإسرائيلي” تحسين استعداده لمثل هذا الصراع في جميع المجالات، هادفاً بذلك جزئياً إلى الإظهار للعدو أن إسرائيل جاهزة ومستعدة لممارسة قوتها الكاملة إذا لزم الأمر.
وبالفعل، تم تطوير “الحملة بين الحروب” على مرّ السنين لتجسّد تفوّق إسرائيل العسكري في الشرق الأوسط. وقد عززت هذه العقيدة بشكل كبير قوة الردع الإسرائيلية ضد أعداء البلاد في المنطقة، وقللت من التهديدات المحدقة بالدولة ومواطنيها، وحسّنت قدرات “جيش الدفاع الإسرائيلي”. كما أدت إلى مبادرة واسعة ومستدامة ضد أبرز الأطراف المخلة بالاستقرار في المنطقة، وهي: «فيلق القدس» الإيراني و«حزب الله» وتنظيم «الدولة الإسلامية».
وفي المرحلة التالية، تستطيع القوات الدولية ويتعيّن عليها أن تتبع النموذج نفسه في مواجهتها وكلاء إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث أن هذا النموذج [قد] يشكل أساساً لتحالف إقليمي استراتيجي يتصدى لمجموعة واسعة من الأنشطة الإيرانية الخبيثة. إنّ “الحملة بين الحروب” هي مفهوم عملياتي مثبت للتصدي لإيران وينطوي على خطر أقل بحدوث تصعيد، مما يجعله مثالياً للاستخدام في الحملة التي تقوم بها واشنطن لحشد التأييد لعملية الضغط التي تمارسها على هذا النظام المارق.
أما بالنسبة لإسرائيل نفسها، فقد سمحت “الحملة بين الحروب” بفترةٍ لا بأس بها من الأمن والازدهار، لا سيما منذ آخر صراع كبير في غزة في عام 2014. وتنعكس هذه المكاسب على الاقتصاد، والقطاع السياحي، والنمو المستمر الذي تشهده المناطق الجنوبية والشمالية لإسرائيل. وتمتعت الحملة بالدعم الدولي، واكتسبت حرية في الحركة (وتم تيسيرها من خلال التفاهم مع الولايات المتحدة وروسيا)، وحسّنت التعاون الإقليمي. وفي الوقت نفسه، شهد “جيش الدفاع الإسرائيلي” تعاظماً غير مسبوق في استعداده للحرب، بما في ذلك ارتفاع مستوى تسلّحه واحتياطاته. وتهدف إسرائيل إلى مواصلة هذه الحملة في المستقبل، وصقلها وفقاً للتطورات الإقليمية.
وأخيراً، حان الوقت لإضفاء الطابع الرسمي على هذا المفهوم وغيره من عناصر الأمن الرئيسية بما يتجاوز العقيدة العسكرية لـ”جيش الدفاع الإسرائيلي” – أي أنه يجب دمجها جميعاً ضمن استراتيجية رسمية وشاملة للأمن القومي الإسرائيلي، تعكسها وتنفذها الأجهزة الأمنية الواسعة النطاق في البلاد. وكالمعتاد، يجب على إسرائيل أن تواصل عملها تحت الشعار القديم القائل “إذا أردت السلام، فاستعدّ للحرب”.
معهد واشنطن