مع إعلان وفاة روبرت موغابي، الرئيس المزمن المخلوع لزيمبابوي، اختارت بعض الدول الأفريقية اللجوء لقاعدة «اذكروا محاسن موتاكم» فقامت بالتركيز على كونه، كما قال رئيس جنوب افريقيا سيريل رامابوزا، «مقاتل التحرير وبطل القضية الأفريقية ضد الاستعمار»، وكذلك فعل رئيس زامبيا اغارد لونغو الذي اعتبر الراحل «الأب المؤسس لزيمبابوي» مؤكدا «مكانته في تاريخ إفريقيا».
كان معبرا جدا، في خضم التعازي مشاركة دولتين غارقتين في انتهاكات حقوق الإنسان في حفل إعطاء الصفات الاستثنائية للدكتاتور الآفل، وهكذا قرأنا ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال فيه للرئيس الحالي إيمرسون منانغاغوا (الذي كان أحد كبار مساعدي موغابي وانقلب عليه): «تقبلوا خالص التعازي في وفاة الرئيس روبرت موغابي الذي حكم بلادكم لفترة طويلة»، معتبرا أن الراحل «قدم مساهمة شخصية كبرى من أجل الاستقلال»، فيما قالت الصين، التي زار رئيسها زيمبابوي عام 2015 ووصف موغابي حينه بـ«الزعيم الاستثنائي»، بأن الرئيس المتوفى «دافع بحزم طوال حياته عن سيادة بلاده وعارض التدخلات الأجنبية».
يمكن استيعاب اختيار الدول الأفريقية تذكّر الحقبة السحيقة من تاريخ الزعيم الذي توفي عن 95 عاماً، قضى قرابة أربعة عقود منها في السلطة، فأغلب هذه الأنظمة ظهرت في سياق الصراع ضد الاستعمار والعنصرية، وأغلب أنظمتها تستخدم سرديّة الاستعمار والنضال ضدّه للتغطية على أنظمة معطوبة تسودها أشكال الاستبداد والفساد والتحكم العسكري والأمني بالسلطة، وتعتاش هذه الأنظمة على حكاية الاستعمار الذي انتهى قبل عقود طويلة لتبرير فشلها وسوء حوكمتها ومعاداتها للديمقراطية.
فهل يستحق موغابي أوصاف «رجل الدولة المناضل من أجل الحرية»، كما قال رئيس كينيا، و«منارة للنضال من أجل تحرير إفريقيا»، مقابل تجاهل أفعاله كطاغية أفقر بلاده وجعلها مزرعة خاصة له ولزوجته وأبنائه ومناصريه؟
يتجاهل مؤبنو «بطل الحرية» أن موغابي عزل زميله في النضال جوشوا نكومو ثم شن حملة عنيفة ضد مناصريه أسفر عنها مقتل الآلاف، وحافظ على الحكم عبر عمليات عنف وتزوير انتخابي ضد معارضيه، وطرد آلاف المزارعين البيض من أراضيهم ليسلمها للمقربين من النظام ولأشخاص لا يفقهون في الزراعة مما أدى لأزمة اقتصادية كبرى لم تخرج البلاد منها حتى اليوم، وقد تورطت زوجته الثانية غريس، وهي أصغر منه بأربعين سنة، في فضائح كبيرة داخل وخارج البلاد، وفي ضوء السيطرة المطلقة بدأت الصعود لخلافته في رئاسة الدولة. لقد تحولت زيمبابوي في عهد موغابي إلى دولة فاشلة منبوذة، بل إن بطل النضال ضد العنصرية صار نموذجا للعنصرية وصدرت عقوبات دولية ضده.
رغم هذه السيرة المشينة لصاحب قول «الرب وحده يستطيع إزاحتي من الحكم» (وهي تذكر طبعا بأدبيات بعض الزعماء العرب)، والانقلاب العسكري ضده فقد حفظ «النظام» ومساعدوه المنقلبون عليه لموغابي دوره «التاريخي» وبدلا من محاكمته على ما أوصل البلاد إليه من وضع كارثيّ فقد اعتنت السلطات به وأمنت سفراته الطبية إلى سنغافورة ودبي إلى أن وافته المنيّة أمس.
عند قيام الانقلاب العسكري على موغابي العام الماضي رأى المحللون في الأمر حركة يحافظ فيها النظام على نفسه من طموحات زوجة موغابي الرئاسية، وهذا يفسّر طبعا العناية التي لقيها بعد الانقلاب، كما أن طبيعة الأنظمة الأفريقية المتشابهة، اختيار صورة «بطل التحرير»، ويفسّر ايضاً تنويه بوتين بفكرة «حكم البلاد لفترة طويلة» كونه يتحدث عن نفسه، وكذلك حديث الصين عن «الدفاع عن السيادة» التي تعني رفض انتقاد الاستبداد، ورغم هذه التفسيرات فإن أسئلة مزعجة تظل بدون جواب مثل: لماذا يتحول «أبطال التحرير» إلى طغاة؟ ولماذا يزيف كل هؤلاء كلمات الحرية والتحرر والاستقلال؟
القدس العربي