عندما يعلن الرئيس الأميركي ترمب أن إيران «لم تعد الدولة نفسها منذ عامين ونصف العام»، في إشارة إلى فعالية العقوبات الأميركية التي تكاد توقف التدفقات المالية على نظام الولي الفقيه، ويضيف: «لا نتعامل من خلال دولة أخرى بل نتعامل مباشرة»، يكون بالواقع قد طوى صفحة الجهود الفرنسية التي قادها الرئيس ماكرون، والتي يقول الفرنسيون إن أساسها حرص فرنسي على السلام واستبعاد الحرب.
لكن «الجهود» الفرنسية التي أُحبطت، انطلقت من رفض التسليم بأن الاتفاق النووي في حالة موتٍ سريري، لتطرح إمكانية تخفيف العقوبات بطلب تسهيل تصدير 700 ألف برميل يومياً، وتضمنت خطاً ائتمانياً قيمته 15 مليار دولار يسدد خلال أربعة أشهر، دون أن يقترن ذلك بجدول أعمال واضح في نقاطه وبتواريخ محددة، كأن يتناول بعد المسألة النووية، المشكلة الأساسية المتمثلة بقضايا السلاح الباليستي، ودور إيران الإقليمي، ومسؤوليتها عن زعزعة استقرار المنطقة، هذه الجهود لم تكن لتنجح لأن باريس التي راهنت على «التفهم» الأميركي، لم تُحسن قراءة طبيعة النظام الإيراني، وفهم حقيقة صنع القرار في طهران. صحيح أن الوزير ظريف يبتسم كثيراً، لكن الأمر الأكيد أن «كل شيء يتعلق بالحوار مع الأميركيين»، يقول الرئيس روحاني: «هو بيد المرشد»، وطالما يعتقد المرشد أن لديه مساحة للمناورة حتى الانتخابات الأميركية، فهو لن يقبل بالذهاب إلى المفاوضات، وهو متمسك باتخاذ القطيعة مع الأميركيين عنواناً لسياسته!
أي قراءة جادة للسياسة التي رسمها المرشد في منحى الابتزاز الإيراني للغرب، تنطلق من أن الاتفاق النووي لا يُمس، لأنه قام على بيع بضاعة لم تمتلكها إيران أصلاً، ولا تفاوض على الصواريخ الباليستية، ولا على النفوذ الإقليمي، لكن خطب روحاني المتناقضة وابتسامات ظريف أمور مفيدة في عملية شراء الوقت واستغلاله لرفع مستوى التخصيب. وما المرحلة الجديدة بالذهاب إلى إنتاج جيل جديد من أجهزة الطرد المركزي، إلاّ تأكيد على المضي في طريق الوصول إلى السلاح النووي، الذي تُراهن طهران على إنتاجه خلال سنة، وربما قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، وطبعاً ما من جهة دولية تأخذ بالنفاق الإيراني الذي يقول بفتوى تحرم هذا السلاح!! فوجود سلاح نووي بيد نظام الملالي من شأنه أن يغير أجندة التعاطي مع إيران وأطماعها، لأنه الغطاء لنهج تهديد دول المنطقة من أجل الهيمنة عليها، وبسط المشروع الإمبراطوري الإيراني… هذا المنحى لحكام طهران أكبر من حجم الوساطات، وتحديداً الفرنسية، وقبلها اليابانية!
تدرك واشنطن حقيقة ما تسعى إليه طهران، لذا تمضي في نهج العقوبات، وليس خفياً سعي إدارة الرئيس ترمب الوصول إلى الانتخابات الرئاسية، وقد نجحت في لي الذراع الإيرانية دون أي طلقة، وقد حددت الهدف من العقوبات الآخذة بالاتساع بحرمان طهران من الحصول على موارد لتمويل الأنشطة الإرهابية، وإجبارها على العودة إلى المفاوضات للتوصل لاتفاق جديد شامل. ويعبر برايان هوك الموفد الأميركي إلى إيران، عن النهج الأميركي، بأنه التزام «بحملة الضغط الأقصى من دون منح أي استثناءات أو تنازلات»، أي فرض تغيير السلوك، وقد قرأته طهران بأنه «تغيير للنظام»، وبالتالي ضرب المشروع الإقليمي.
ولأن طهران تعرف ما ستؤول إليه العقوبات من نتائج كارثية على الوضع الداخلي الإيراني، وتالياً على نفوذها الإقليمي، ولأنها تلمس أبعاد الإطاحة الأميركية بالمبادرة الفرنسية، التي تزامنت مع موجة عقوبات طاولت كيانات وأسماء «لبنانية وإيرانية وهندية»، وشركات بديلة لتهريب النفط الإيراني لتوفير التمويل لـ«فيلق القدس» و«حزب الله»، فقد بات مستحيلاً أن تبقى المواجهة تحت سقفٍ منضبطٍ، لأنه لا السياسة الأميركية ستتغير في المدى القريب، ولا السياسة الإيرانية، لم يبق إلاّ تسخين الجبهات، وإن كان مرجحاً أن يكون التسخين مرفقاً بمواقف معلنة عن رفض الذهاب إلى حربٍ شاملة ومدمرة. غير أن ما لا يجب إغفاله، هو أن أي خطأ إيراني في حساب التغيير الاستراتيجي، فإن أميركا في الظرف المناسب لها قد تقلب الطاولة حتى في عام الانتخابات الرئاسية.
بهذا السياق، ينبغي النظر بدقة إلى كل ما جرى في الأول من سبتمبر (أيلول) على الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية، وأبلبنان
عاد المواقف التي أعلنها حسن نصر الله عن كسر الخطوط الحمر، كما ينبغي التوقف أمام ما يدور على مستوى «الحشد الشعبي» الذي قرر إنشاء قيادة جوية (..) الأمر الذي اعتبره مقتدى الصدر بمثابة إعلان نهاية حكومة عادل عبد المهدي، وتشريع الأبواب أكثر أمام التغول الإيراني. وفي الخلفية خوف حقيقي في طهران من نتائج تكثيف العقوبات الأميركية، والعالم يشهد إذلال العنجهية الإيرانية في مسألة ناقلة النفط التي تهيم في المتوسط، ولا تجرؤ أي جهة على التعامل معها! وخوف نظام الملالي أكبر، لأن كل المعطيات الأميركية تُفضي إلى ترجيح بقاء الرئيس ترمب ولاية ثانية في البيت الأبيض.
يعود مرجوعنا إلى لبنان الذي بات في عنق الزجاجة، فمنه قد تُزخِّم إيران حروبها بالوكالة، بوهم القدرة على إحداث خرق يعيد خلط الأوراق، ما سيعزل البلد أكثر فأكثر، لأن افتعال حرب مع العدو، لا ناقة له فيها ولا جمل، لن تجلب تعاطفاً عربياً ولا تفهماً دولياً، والدليل الأبرز أن دعم الجامعة العربية للبنان حمل تحذيراً واضحاً من خطر أن تأخذ فئة البلد إلى حربٍ مدمرة.
بعد قضية «جمال ترست بنك» يزداد الحديث عن تورط بنوكٍ أخرى، ولا يُعول على نفي جمعية المصارف، ويتم وضع لبنانيين وشركات لبنانية على لائحة العقوبات، وتضج بيروت بأخبار عن لقاء ثلاثي جمع نصر الله وسليماني ووزير الدفاع الإيراني بحث في بنك أهداف إسرائيلية وأميركية (..)، وفيما يطالب علناً قائد «اليونيفيل» بإخلاء جنوب الليطاني من السلاح والمسلحين، يستمر غياب السلطة عن تحمل مسؤوليتها حيال اللبنانيين ومصالحهم، ويكتفي الحريري بتصريح للإعلام الأميركي (CNBC)، وفيه قوله؛ «(حزب الله) مشكلة محلية وإقليمية… نحن عاجزون عن كبح جماحه، ولا نتحمل المسؤولية عن هجماته الأخيرة على إسرائيل، ولا أتعاطف مع أي مؤسسة مالية تخالف العقوبات الأميركية»، في حين أن الطريق الأقصر، المُؤيدة شعبياً، أياً كانت النتائج السياسية، تتطلب طرح هذه المسائل على مجلس الوزراء، والذهاب إلى بحث دون لبس في الاستراتيجية الدفاعية، حجر الرحى في فك الارتباط بين الدولة والأجندة الخارجية لـ«حزب الله».
الشرق الاوسط