أميركا تستعدّ لمرحلة ما بعد احتكار نتنياهو القرار الإسرائيلي

أميركا تستعدّ لمرحلة ما بعد احتكار نتنياهو القرار الإسرائيلي

لا يمكن التقليل من تداعيات نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة على العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، حتى لو لم تتبلور بشكل كامل بعد. أولى هذه التداعيات برودة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ودخول “صفقة القرن” في “كوما”، نتيجة المراوحة المتوقعة في السياسة الإسرائيلية التي تتزامن مع وقوف واشنطن على مشارف مرحلة “البطة العرجاء” التي تطبع عادة السنة الأخيرة من ولاية الرؤساء الأميركيين.
ترامب، الذي لم يتصل بنتنياهو منذ الانتخابات الإسرائيلية، علّق على نتائجها الأسبوع الماضي قائلاً: “علاقاتنا هي مع إسرائيل، لذلك سنرى ما قد يحدث”، في إشارة إلى انتظار نتائج المشاورات الحكومية. المبعوث الأميركي للسلام في الشرق الأوسط المستقيل، جيسون غرينبلات، زار إسرائيل بعد انتهاء الانتخابات، وطلب لقاء مع رئيس حزب “أزرق أبيض”، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، بني غانتس، في مؤشر على أنّ قناة الاتصال الأميركية مع إسرائيل لم تعد حكراً على نتنياهو، كما كان الحال على مدى عقد من الزمن.


قناة الاتصال الأميركية مع إسرائيل لم تعد حكراً على نتنياهو، كما كان الحال على مدى عقد من الزمن


حتى التفكير في مرحلة ما بعد نتنياهو بدأ في واشنطن. وتساءل السفير الأميركي الأسبق لدى إسرائيل دانيال شابيرو، في مقال له في صحيفة “واشنطن بوست” أخيراً، ماذا سيحصل إذا رحل عن السلطة نتنياهو الذي “هيمن على العلاقات الأميركية – الإسرائيلية”. وحتى لو أنه من المبكر الحديث عن نهاية نتنياهو سياسياً، أصبح واضحاً بالنسبة إلى واشنطن أنه لم يعد باستطاعته التكلّم وحده باسم إسرائيل، وإذا بقي في السلطة، سيكون ذلك نتيجة حكومة إجماع أو تسويات جانبية، ما يعني أنه سيكون مقيّد اليدين في علاقاته ومباحثاته مع الولايات المتحدة.

هذه المسافة بين نتنياهو وإدارة ترامب بدأت حتى خلال الحملة الانتخابية الإسرائيلية. إذ لم تعلّق الإدارة الأميركية لا إيجاباً ولا سلباً على إعلان نتنياهو نيته ضمّ غور الأردن، كما أنّ تغريدة ترامب قبل أيام، عن معاهدة الدفاع المشترك كانت وكأنها رفع عتب مع وعد ببحث القضية بدون أي التزام جدّي من واشنطن. والآن، وبعدما ألغى نتنياهو زيارته إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تنطلق غداً الثلاثاء، فإنّ هذا يعني أنه قد لن يكون هناك أي تواصل مباشر بين ترامب ونتنياهو حتى اتضاح صورة المشهد السياسي الإسرائيلي خلال الأسابيع المقبلة.

واستخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي صور الرئيس الأميركي إلى جانبه في حملته الانتخابية الأخيرة، ما يعني أنّ هزيمة نتنياهو انتخابياً تنعكس على ترامب، الذي كان يتباهى أخيراً بحجم شعبيته في إسرائيل. وترامب لا يحب من يصبحون عبئاً سياسياً عليه أو من يخسرون الانتخابات، والآن يشعر أنّه راهن على حصان خاسر، وبالتالي قرّر أخذ مسافة من نتنياهو، بشكل مؤقت على الأقلّ، حتى تحسم المشاورات في إسرائيل مصير الأخير الذي يرزح تحت اتهامات الفساد.

وخلال ولاية الرئيس السابق، باراك أوباما، كانت التساؤلات الأميركية تدور حول إذا ما سيقبل نتنياهو بتسوية مع الفلسطينيين، وإذا ما سيفاجئ الجميع ويوجه ضربة لمواقع إيران النووية. وبالفعل، كشفت تقارير أخيراً عن أنّ إدارة أوباما تجسّست على إسرائيل لمعرفة ما إذا كانت تخطط لضربة مماثلة بهدف تقويض الاتفاق النووي مع إيران. هذه التساؤلات استمرت خلال العامين الأخيرين، ولو بصيغة مغايرة، على الرغم من الدعم المطلق الذي قدمه ترامب لنتنياهو. وبالتالي، لا يعرف البيت الأبيض حتى الآن إذا ما سيستمرّ نتنياهو بتأجيج النزاع مع طهران لعرقلة أي حوار أميركي-إيراني، وكذلك إذا ما سيردّ الجميل لترامب ويقبل بتنازلات محددة للفلسطينيين.


لن يكون هناك أي تواصل مباشر بين ترامب ونتنياهو حتى اتضاح صورة المشهد السياسي الإسرائيلي خلال الأسابيع المقبلة


غرينبلات حمل الجواب اليقين حين التقى نتنياهو بعيد إعلان نتائج الانتخابات الإسرائيلية، ولمّح إلى أنه قد يتراجع عن استقالته إذا كانت هناك فرصة جدية لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن كلام غرينبلات عن احتمال تأجيل موعد إعلان “صفقة القرن” مرة أخرى، يعني أنّ نتنياهو لا يزال يؤثّر على توقيت ذلك، وأنه ليس مستعداً بعد للإعلان عن التنازلات الإسرائيلية القليلة الواردة في الخطة. كذلك أصبح واضحاً أنّ قرار غرينبلات إعلان استقالته كان مرتبطاً باعتقاده أنّ لا أمل في تحقيق اختراق في المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، وأنه سيعود عن هذه الاستقالة في حال كانت هناك مؤشرات عكس ذلك. وإذا دخلت استقالة غرينبلات حيز التنفيذ في أعقاب استقالة مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، فهذا يعني أنّ نتنياهو خسر حليفين داخل إدارة ترامب كان يراهن عليهما لتفادي أي تداعيات سلبية عليه من “صفقة القرن”، ولإبقاء الضغط الأميركي على النظام الإيراني.

ويبقى نتنياهو، الذي يملك شبكة اتصالات واسعة في واشنطن أكثر من منافسيه، ويتقن اللغة الإنكليزية، الأكثر قدرة على التلاعب والمناورة مع السياسيين الأميركيين، كما كان جلياً في سلوكه الدرامي في معارضة أوباما، إلى تملّقه لترامب على حساب علاقاته مع الحزب الديمقراطي. واختصر وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون من جامعة “هارفرد” الأسبوع الماضي هذا السلوك، بحيث وصف نتنياهو بأنه “ماهر للغاية ومكيافيلي قليلاً”، مضيفاً أنه “خلال التعامل مع بيبي، من المفيد دائماً أن تحمل قدراً كبيراً من الشك”. كما لفت تيلرسون إلى أنّ نتنياهو يستخدم “معلومات مغلوطة” لإقناع الولايات المتحدة عندما يرى ذلك ضرورياً، وتابع: “لقد كشفناها للرئيس لاحقاً، وبالتالي فهم أنه يتم التلاعب به. يزعجني أنّ حليفاً وثيقاً ومهماً بالنسبة لنا يفعل ذلك بنا”.

ومنذ وصوله إلى السلطة بداية عام 2017، نظر ترامب إلى نتنياهو كحليف ضدّ إرث أوباما، وكوسيلة لتعزيز أوراق اعتماده الموالية لإسرائيل، لا سيما بين اليهود المحافظين والإنجيليين في الانتخابات الأميركية. لكن الرئيس الأميركي يرى أن عليه الآن ترك الباب مفتوحاً لكل الاحتمالات، بدل التعامل مع شخص واحد فقط في إسرائيل. كما يشعر ترامب بأنه أعطى نتنياهو كل ما يمكن، لا سيما الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، لكن مردود هذا الدعم كان خاسراً، إذ لم يعد يملك نتنياهو هامشاً ذاتياً لاتخاذ القرارات.


يرى البيت الأبيض حالياً أنّ إضعاف نتنياهو أو احتمال تشكيل حكومة وحدة وطنية في إسرائيل، قد يعزز فرص خطة السلام الأميركية


كما أشارت تقارير أميركية إلى امتعاض الرئيس الأميركي من معارضة رئيس الوزراء الإسرائيلي لمحاولة إدارته التحاور مع طهران. والفارق بين الرجلين أنّ نتنياهو رفض الاتفاق النووي لأنه يرفض فكرة التسوية من أساسها مع طهران، بينما اعتراض ترامب على الاتفاق كان لاعتقاده أنه يمكنه تحصيل شروط أفضل من أوباما إذا أعاد التفاوض. والتباعد حول إيران بين ترامب ونتنياهو (إذا بقي رئيساً للوزراء) سيزداد مع الوقت لأنّ لدى كل منهما مقاربة مختلفة.

وهناك أولوية أخرى اليوم بالنسبة لواشنطن، وهي إعطاء ترامب إنجازاً في السياسة الخارجية لتسويقه في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبالتالي هناك في حسابات البيت الأبيض ترابط عضوي بين الصيغة الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ومصير “صفقة القرن”. ويرى البيت الأبيض حالياً أنّ إضعاف نتنياهو أو احتمال تشكيل حكومة وحدة وطنية في إسرائيل، قد يعزز فرص خطة السلام الأميركية مقارنة مع السيناريو الآخر الذي كان فوز نتنياهو وتحججه الدائم بتحالفاته مع اليمين الإسرائيلي المتشدد. لكن السيناريو المرجح قد يكون الجمود في الحياة السياسية الإسرائيلية في المدى المنظور، وليس واضحاً ما إذا كانت الرغبة الأميركية في تحالف بين نتنياهو وغانتس ممكنة عملياً، وحتى لو حصلت قد لا تؤدي بالضرورة إلى إعطاء دفع لـ”صفقة القرن”.

إذا كان نتنياهو يتحجج بالمشاورات الحكومية في إسرائيل لتأجيل إعلان “صفقة القرن”، فإنّ البيت الأبيض مستعجل أكثر من أي وقت مضى، لأنّ لديه مجالاً حتى نهاية العام لمحاولة دفع مسار خطة السلام قبل أن تدخل الحياة السياسية الأميركية العام المقبل في زمن الانتخابات الرئاسية.

العربي الجديد