تعيش واشنطن الآن أجواء شبيهة بالتي عاشتها في أواخر يوليو/تموز عام 1974، عندما رضخ الرئيس ريتشارد نيكسون لأمر المحكمة العليا وسلّم الكونغرس شريط التسجيلات التي كشفت ضلوعه في محاولة عرقلة التحقيق بفضيحة ووترغيت. التسليم كان نقطة الفصل في إنهاء رئاسته. والباقي معروف.
أمس الأربعاء، استجاب البيت الأبيض للضغوط وسلّم إلى الكونغرس “خلاصة” مكالمة أجراها الرئيس دونالد ترامب مع نظيره الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي في يوليو/تموز الماضي وطلب منه “إسداء خدمة” ربما تلحق الأذى بسمعة وصورة خصمه الانتخابي الأقوى جو بايدن.
في حالة نيكسون، كان الكشف عن الشريط بمثابة الضربة القاضية. في حالة ترامب لا تندرج المكالمة حتى الآن، في هذه الخانة. لكنها فتحت الباب على مصراعيه في هذا الاتجاه. كشفت عن دخان يشير إلى وجود نار تحتاج إلى نبش موقعها لعزل الرئيس.
لإنجاز هذه المهمة، بدأ الفريق الديمقراطي في مجلس النواب رسمياً، التحضيرات لفتح عملية التحقيق اللازمة في هذا الخصوص. حسب الدستور، يتولى المجلس دور المحقق ويرفع قراره بالأغلبية (التي يملكها) إلى مجلس الشيوخ الذي يلعب دور المحكمة للبتّ بالموضوع. حكمه بأكثرية الثلثين، 67 صوتاً، يؤدي إلى إزاحة الرئيس وإلا سقط قرار الإدانة كما حصل في محاكمة الرئيسين أندرو جونسون عام 1886 وبيل كلينتون عام 1998. كلاهما شفع بهما مجلس الشيوخ. الرئيس نيكسون سبق عملية إدانته ومحاكمته باستقالته من الرئاسة.
”
يراهن الجانب الديمقراطي على إمكانية تغيير وجهة الرياح في صفوف الجمهوريين بعد استفحال الفضيحة
”
ينطلق البحث الآن في هذا المجال من عدة انكشافات بدأت مع “المبلِّغ” السري (وهو أحد الذين يقومون بتدوين مكالمات الرئيس حسب القانون) الذي قام، أخيراً، بإطلاع المفتش العام في “وكالة الاستخبارات الوطنية” على أن مكالمة الرئيس مع نظيره الأوكراني احتوت على كلام “مقلق” ويستدعي النظر فيه بصورة “عاجلة”. المفتش وجد أن المسألة تستدعي إبلاغ الكونغرس وفق القانون. لكن مدير الوكالة قام بدلاً من ذلك بالتماس رأي وزارة العدل التي أوعزت بعدم وضع الكونغرس بالصورة.
على الأثر، تسارعت التطورات بوتيرة عالية ومعها تعالت الضجة وتزايدت الضغوط إلى حد وجد الجمهوريون أنه لا فرار من الكشف عن نص المكالمة فانضموا إلى الديمقراطيين وصوتوا، الثلاثاء الماضي، بالإجماع في مجلسي النواب والشيوخ على وجوب تسليم النص. وعد البيت الأبيض بالإفراج عنه اليوم الخميس، لكنه كشف عن خلاصته فجأة حوالي ظهر الأربعاء. ما احتواه صدم حتى بعض الجمهوريين مثل السناتور رومني وغيره. فيه عرض مبطّن لمقايضة قوامها أن تقوم السلطات الأوكرانية بإعادة فتح تحقيق في قضية شركة غاز أوكرانية كان هانتر ابن المرشح الرئاسي الأقوى جو بايدن، عضواً في مجلس إدارتها، مقابل تنفيذ صفقة سلاح لأوكرانيا كان سبق وأقرها الكونغرس لكن الرئيس حبسها لغاية ما بعد المكالمة. السعي كان يستهدف ضمناً فضح هانتر ومن ورائه والده للتخريب على سمعته وبالتالي على حملته الانتخابية وبما يسهل تجديد رئاسة ترامب. هكذا بدت الصورة وأثارت ردود فعل صارخة وتردد أنها أثارت أيضاً نقمة عدد متزايد من الجمهوريين ولو أنهم تمسكوا بخطاب إنقاذي لصالح الرئيس.
وازداد التهاب القضية عندما اطّلع الكونغرس، بعد ظهر الأربعاء، على مضمون صرخة “المبلِّغ”، ومن المتوقع أن ترتفع درجة حرارتها اليوم الخميس عندما يدلي مدير الوكالة والمفتش العام بشهادتهما أمام لجان الكونغرس المعنية.
الجدل الآن في الشق القانوني يدور حول جدارة العزل: هل هو يقتضي وجود مقايضة صريحة كما يقول الجمهوريون، أم أنه يكفي أن يكون ترامب قد استعان بجهة خارجية لمساعدته في الانتخابات ضد خصمه السياسي؟ عناصر المقايضة المفضوحة حتى الآن غير متوفرة. لكن لم تتكشف بعد المكالمة بكاملها والتي قالت “وول ستريت جورنال” المحسوبة على خندق الرئيس، إنه كرر طلبه للرئيس الأوكراني 8 مرات. مراجع قانونية عالية ومتعددة تصر على أن عناصر العزل متوفرة حتى أكثر من توفرها في تقرير روبرت مولر حول التحقيقات الروسية. العملية تحتاج إلى وقت لاستجواب الجهات المعنية واستحضار الشهود والوثائق والأدلة. لكن الوقت ضاغط. مع مطلع العام، تبدأ انتخابات التصفية الحزبية في معركة الرئاسة. لذا من المحتمل أن يمدد مجلس النواب دورته من دون توقف ولغاية إنجاز خطوة التحقيق والتصويت عل قرار الإدانة الذي صار بمثابة تحصيل الحاصل بعد أن وصل عدد الديمقراطيين، مساء أمس الأربعاء، إلى 218. وهو العدد المطلوب لتمرير القرار في مجلس النواب.
ويراهن الجانب الديمقراطي على إمكانية تغيير وجهة الرياح في صفوف الجمهوريين بعد استفحال الفضيحة ولو أنهم الآن يحاولون إنقاذ ترامب بشكل مستميت. المخطط الجمهوري المخضرم مايك مورفي قال إن “حوالي 30 سناتورا جمهوريا يرغبون بالنهاية في التصويت ضد ترامب”. والمذكور خبير انتخابي جمهوري موثوق فيه ومطلع في العمق على أوضاع الحزب الجمهوري. وما يعزز كلامه أن نغمة التأفف والتعب من ترامب في صفوف الجمهوريين بدأت تطلع إلى العلن وإن بصورة مواربة، كما عبّر عنها السناتور ميت رومني.
اللحظة حساسة وخطيرة. طلب التأثير في انتخابات 2020 عن طريق أوكرانيا يبدو أقوى كقضية ضد الرئيس ترامب من التدخل الروسي لصالحه في انتخابات 2016. هذه المرة إذا صحت الرواية يكون ترامب ضالعاً شخصياً ومباشرة في الموضوع. تطور وضع رئاسته في عين عاصفة تهدد بالتحول إلى إعصار كاسح.
العربي الجديد