أميركا في آسيا الوسطى: البحث عن طريق حرير

أميركا في آسيا الوسطى: البحث عن طريق حرير

ملخص
ظلت أهداف أميركا في آسيا الوسطى واحدة ومتسقة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي؛ حيث دعمت الاستقرار الداخلي والتعاون الإقليمي وجهود الحد من انتشار التشدد والعنف، كما دعمت -وإن بشكلٍ متقطع- الإصلاحَ والسعي نحو الديمقراطية، وذلك في سبيل ضمان سيادة دول آسيا الوسطى واستقلالها في محيط جيوسياسي معقَّد. ومع انحسار الحرب في أفغانستان، تسعى واشنطن نحو تحقيق نفس هذه الأهداف، ولكن مع العمل على تعزيز التنمية الاقتصادية الإقليمية بالترويج لمشروع طريق حرير جديد. وبهذا فهي تتواجه مع قوتين إقليميتين كبيرتين: الصين وروسيا اللتين تسعيان من أجل تحقيق “التكامل الأوراسي” وَفْق مخططاتهما الخاصة وبتعاون بينهما؛ بسبب توتر علاقاتهما مع أميركا. وترى الورقة أنه في وقتٍ تتناقص فيه موارد واشنطن المخصصة للمنطقة، فإنها تحتاج لتحديد أهداف متواضعة، وأن تستفيد من بُعدها الجغرافي عن آسيا الوسطى من أجل طمأنة دولها بأنها تستطيع ضمان التوازن في هذه البقعة من العالم.

لعبت آسيا الوسطى إبّان سِنِي الحرب في أفغانستان دورًا محوريًّا في إرساء العمليات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية هناك. على أن هذا الدور لم يحظَ -غالبًا- بالتقدير الذي يستحقه. وقد ظل للقوات العسكرية الأجنبية وجود (محدود) هناك إلى ما بعد نهاية عام 2014، على الرغم من أن إدارة أوباما كانت تحرص على جلاء جميع القوات الأجنبية عن أفغانستان وَفْق هذا الموعد. وفي هذه الأثناء كان دور آسيا الوسطى قد أخذ يتغيَّر بالفعل وباتجاه آخر؛ فقد فقدت هذه المنطقة بالنسبة لواشنطن الكثير من أهميتها كمحطة انطلاق وعبور إلى أفغانستان، لكنها بالمقابل أصبحت مُكوّنًا أساسيًّا مهمًّا في تحقيق رؤية أميركية تقوم على إنشاء “أوراسيا” متكاملة ومترابطة كحلقة بعضها مع بعض، وهي ما تسمِّيه وزارة الخارجية “مبادرة طريق الحرير الجديد”.

وليست الاستعارة الكامنة في مصطلح طريق الحرير بالجديدة على الإطلاق، ولم تكن أميركا القوة الخارجية الوحيدة التي تستخدمه كعنوان لخطة طويلة الأجل تستهدف ربط آسيا الوسطى بالعالم الخارجي. ومن المتوقع أن تخوض واشنطن غمار معركة صعبة لتحقيق نسختها من هذا الطريق؛ لأن المنطقة تقع بعيدًا عنها، ولأن المصالح الحيوية الأميركية والمباشرة قليلة هناك بالمقارنة بما لدى سواها من الدول، خاصة في هذه المرحلة التي تشهد تصاعدًا في توتر علاقاتها مع القوى الكبرى الأخرى الساعية لتشكيل مستقبل آسيا الوسطى، ألا وهما روسيا والصين.

بالطبع يمثِّل طريق الحرير الجديد رؤية مغرية للمستقبل، غير أن على واشنطن أن تكون واقعية بشأن قدرتها على تحقيق أهداف محدودة في المدى القريب؛ لأن التحدي الرئيسي هو طمأنة دول آسيا الوسطى بأن واشنطن ملتزمة بها وبالعمل معها ولن تتخلى عنها لتقع في قبضة بكين وموسكو، لاسيما أن الدعم الأميركي لسيادة آسيا الوسطى كان يقوم -ولفترة طويلة- على الثقة بقدرة آسيا الوسطى على الإسهام في تحقيق أهداف واشنطن الواسعة هناك، والتي من ضمنها -حاليًا- المحافظة على توازن استراتيجي سلس في أوراسيا، في ظل تزايد التعاون بين الصين وروسيا في المنطقة.

مصالح الولايات المتحدة: الاستمرارية والتحوُّل

يعود اهتمام واشنطن بآسيا الوسطى إلى السنوات الأولى التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، فخلال التسعينات من القرن العشرين، ركَّزت إدارة كلينتون على مساعدة دول آسيا الوسطى حديثة الاستقلال في تعزيز سيادتها ولتصبح عضوًا كامل العضوية في المجتمع الدولي، مع الحرص على استقرارها ودرء احتمالات نشوب صراعات جيوسياسية على أراضيها ومواردها؛ كي لا يتكرر تاريخيًّا ما عُرف باللُّعبة الكبرى(**) في القرن التاسع عشر(1).

وتركزت أغلب اهتمامات واشنطن في ذلك الوقت على الطاقة، وتحديدًا على فتح الرواسب النفطية والغازية في حوض بحر قزوين أمام الاستثمار الأجنبي، وإنشاء بنية تحتية من خطوط الأنابيب؛ من أجل نقل طاقة بحر قزوين إلى الأسواق الأوروبية. وحقَّقت هذه السياسة بعض النجاحات، بما في ذلك استثمارات كبيرة لشركة إكسون موبيل وشيفرون لاسيما في قطاع الطاقة بكازاخستان، ومد خطوط أنابيب جديدة مثل خط باكو-تبليسي-جيهان؛ بُغية نقل نفط بحر قزوين وغازه للغرب.

ومع ذلك، فقد تبين أن بحر قزوين بيئة تشغيلية صعبة لأسباب جيولوجية وسياسية على السواء، كما أنه لم يرقَ إلى مستوى الآمال بِفَطْم أوروبا عن اعتمادها على الهيدروكربونات الروسية. ولم تستطع الديمقراطية والأسواق الحرة كسب الكثير من الاهتمام في المنطقة. وتعتبر قيرغيزستان هي الوحيدة من دول آسيا الوسطى الخمس التي قامت بمحاولة حقيقية نحو الديمقراطية، بيد أنه مع حلول أواخر التسعينات من القرن العشرين، فإن هذه الجهود أُخفقت في وجه الفساد والمحسوبية المنتشريْن على نطاق واسع، واللذين تورطت فيهما عائلة الرئيس.

وربما خَبَا اهتمام الولايات المتحدة بآسيا الوسطى، لولا ما حصل من صدمة الهجمات الإرهابية في 11 من سبتمبر/أيلول 2001 وما تلاها من قرار إرسال القوات الأميركية وقوات التحالف؛ من أجل الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان، والذي وضع آسيا الوسطى في الخطوط الأمامية. ولم تكن حكومات آسيا الوسطى العلمانية تكره طالبان لأسباب أيديولوجية وحسب، وإنما لأنّ طالبان وفَّرت مأوى للمسلحين من الحركة الإسلامية لأوزبكستان التي شنَّت من قبلُ غارات عدة على آسيا الوسطى.

ووفرت آسيا الوسطى نقطة انطلاق ملائمة للعمليات العسكرية تحت قيادة الولايات المتحدة، ووقَّعت واشنطن قبل نهاية عام 2001 اتفاقيات تأسيسية مع حكومة كلٍّ من قيرغيزستان وأوزبكستان، سمحت بدورها لجنود الولايات المتحدة بالدخول للقواعد الجوية؛ من أجل نقل القوات والعتاد إلى أفغانستان(2). وقدَّمت الحكومات في بيشكيك وطشقند منشآتها بالرغم من معارضة روسيا، التي كانت تخشى من إرساء وجود دائم للولايات المتحدة في المنطقة (إلَّا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رضخ في نهاية المطاف لوجود أميركي مؤقَّت في ظل معارضة شديدة من جيشه). وقدمت أيضًا دول آسيا الوسطى أنواعًا أخرى من الدعم، بما في ذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية وفتح الأجواء لتحليق طائرات التحالف.

غير أن أهمية آسيا الوسطى ازدادت عندما أدى تدهور العلاقات بين أميركا وباكستان إلى تعرُّض خطوط إمداد التحالف للخطر؛ حيث تعرَّضت قوافله المارة عبر باكستان لهجمات، وعانت واشنطن وحلفاؤها من الإغلاق المنتظم لنقاط العبور إلى أفغانستان، فكان أن سعوا إلى إنشاء ممرات نقل بديلة عبر آسيا الوسطى، أثمرت إنشاء شبكة توزيع الشمال في عام 2009. والجدير بالذكر أن تلك الشبكة كانت تنطلق من بعض الموانئ في أوروبا عبر روسيا والقوقاز والشرق الأوسط، لتتلاقى على طول خطوط السكك الحديدية التي تمر عبر كازاخستان وأوزبكستان حتى الحدود الأفغانية.

وقد استطاعت شبكة توزيع الشمال أن تحمل في أوج عطائها أكثر من ثلثي لوازم التحالف (غير القاتلة) المتوجّهة إلى المسرح الأفغاني رغم المسافات الطويلة والتكاليف المرتفعة، وأظهرت “الجدوى التقنية” من وصل آسيا الوسطى وأفغانستان بشبكة من التجارة والتواصل تمتد على اتساع القارة، وأصبحت هذه التجربة هي الأساس الذي ارتكزت عليه رؤية طريق الحرير الجديد التي ستظهر بعد سنوات قليلة(3).

هذا، ويذكر أنه مع تزايد أهمية آسيا الوسطى بالنسبة للعمليات اللوجستية والعسكرية الأميركية، فقد خفَّفت واشنطن من تأكيدها على تعزيز التحوُّل الليبرالي والديمقراطي في المنطقة، وهي أمورٌ كانت تؤكد عليها قبل الحرب. وهذا النهج أصبح من المتعذّر الدفاع عنه في أعقاب أعمال العنف التي اندلعت في مدينة أنديجان الأوزبكية في مايو/أيار 2005، وقُتل خلالها عدد كبير من المتظاهرين، بعضهم مسلَّح، على يد قوات الأمن. وبسبب ضغط كلٍّ من الكونغرس ووزارة الخارجية الأميركية بشأن إجراء تحقيق دولي بهذا الشأن، انهارت المفاوضات المتعلقة بتمديد عقد إيجار الولايات المتحدة للقاعدة الجوية في كارشي خان أباد. وإذ نظرت موسكو بعين الرضا لما حصل، فقد فشلت طشقند وواشنطن في التوصل إلى اتفاق، الأمر الذي أدى إلى رحيل القوات الأميركية في منتصف عام 2005، وسرعان ما انضمت أوزبكستان لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تدعمها روسيا، وكذلك المجموعة الاقتصادية الأوراسية(4).

وثمَّة مشاكل مماثلة أصابت الوجود الأميركي في قيرغيزستان، حيث أنهت القوات الأميركية في قاعدة ماناس الجوية (وهي قاعدة سُمِّيت فيما بعدُ مركز عبور لأسباب سياسية) شراء الوقود من شركة كان يسيطر عليها أقارب لكرمان بك باكييف الذي كان يرأس البلاد في ذلك الوقت. وباتت هذه العقود تشكِّل تبعةً سياسيةً عندما أزاحت احتجاجات الشارع العنيفة باكييف عن السلطة في إبريل/نيسان 2010. وفي إطار الديمقراطية الهشّة التي تلت سقوط باكييف، أصبح الوجود الأميركي في ماناس مركز اهتمام القوى الوطنية التي شجَّعها الروس في إطار جهودهم لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في آسيا الوسطى. وبعد أن عجزت الولايات المتحدة عن التوصل إلى اتفاق حول تمديد عقد الإيجار، وحيث واجهت معارضة كبيرة داخل البلد، فقد وافقت على الانسحاب من ماناس في عام 2014. ولم تكافح واشنطن بقوَّة للحفاظ على وجودها في قاعدة ماناس؛ وذلك يعود في بعضه إلى اعتقادها أن الصراع في أفغانستان كان ينحسر تدريجيًّا، لاسيما أن استراتيجيتها الانتقالية في هذا الأخير، كانت تقوم على السعي لتحقيق استقرار اقتصادي من شأنه أن يعزِّز التنمية، ويُفطِم الاقتصاد الأفغاني عن اعتماده على إنتاج الأفيون. ولكن نظرًا لموقع أفغانستان في ما سمّته “قلب آسيا”، ركَّزت الولايات المتحدة على جعل أفغانستان مركزًا إقليميًّا للتجارة والنقل، وهو الأمر الذي تطلَّب بدوره تعزيز التواصل مع جيرانها في آسيا الوسطى.

نحو طريق الحرير الجديد

بالإعلان عن رؤية طريق الحرير الجديد في خطاب ألقته وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في تشيناي بالهند في يوليو/تموز 2011، دعت إلى “علاقات اقتصادية أقوى في جنوب ووسط آسيا، بحيث يمكن للسلع ورأس المال والناس أن يتنقلوا بسهولة أكبر عبر الحدود، وهي رؤية تتطلب بناء المزيد من خطوط السكك الحديدية وطرق سريعة وبنى تحتية للطاقة”(5).

ولم يكن من قبيل الصدفة الإعلان عن مبادرة طريق الحرير الجديد من تشيناي، فعلى الرغم من أن الهدف المباشر لهذه المبادرة هو تأمين مستقبل اقتصادي مُستدام لأفغانستان، إلا أنه كان يكمن وراءها مخاوف أميركية حول قدرة آسيا الوسطى في الحفاظ على سيادتها في منطقة تهيمن عليها روسيا، كما تزداد هيمنة الصين عليها.

وفي سعيها للحد من حضورها في المنطقة، فإنّ واشنطن تريد تعزيز ارتباط آسيا الوسطى مع الهند، وهي القوة الديمقراطية السريعة الصعود برعاية إدارة أوباما. ورغم أن الهند (ناهيك عن باكستان) لا تزال لاعبًا هامشيًّا في آسيا الوسطى نفسها، فإن لديها مصالح واسعة في أفغانستان، ومن المحتمل في المستقبل أن تستطيع إحداث توازن إزاء النفوذ الروسي والصيني في المنطقة. وعلى العموم، فإن مشاريع البنية التحتية المستهدفة التي دعمتها إدارة أوباما، بما في ذلك خط أنابيب غاز تركمانستان وأفغانستان وباكستان والهند، ومشروع نقل الكهرباء في وسط وجنوب آسيا (ويُعرف باسم CASA-1000)، وشبكة طاقة تركمانستان وأوزبكستان، طاجيكستان وأفغانستان وباكستان، كلها تمر من آسيا الوسطى عبر أفغانستان إلى شبه القارة الهندية(6).

وقد تراءى لبعض المسؤولين الأميركيين -أيضًا- بناءُ روابط جديدة على طول الطريق إلى جنوب شرق آسيا، حيث مَثَّل تعزيز العلاقات مع بورما أحد الإنجازات الرئيسية لإدارة أوباما في السياسة الخارجية. وبطبيعة الحال، فقد بدأت واشنطن بتجديد اهتمامها فيما يتعلق بالجغرافيا السياسية في آسيا الوسطى، في الوقت الذي كانت كلٌّ من موسكو وبكين تعيدان ضبط نهجهما إزاء المنطقة، وكانت علاقاتهما مع الولايات المتحدة تزداد توترًا.

الجيوسياسية الإقليمية

أعلن رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين في أواخر عام 2011 عن رؤيته لاتحاد أوراسي جديد كجزء من حملته للعودة إلى الرئاسة في العام التالي. وبالبناء على اتحاد جمركي قائم مع بيلاروس وكازاخستان، فإن الاتحاد الأوراسي الذي تم التخطيط له يمكن أن يكون “رابطة قوية عابرة للقوميات وقادرة على أن تصبح واحدة من أقطاب العالم الحديث، وتكون بمثابة جسر فعّال بين أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ”، وفي النهاية يصل إلى مرحلة “اتحاد اقتصادي كامل” بين أعضائه(7). وبعبارة أخرى، كان الهدف من هذا الاتحاد أن يكون كتلة من الدول مرتبطة اقتصاديًّا بروسيا وخاضعة لهيئات عابرة للسيادة الوطنية تسيطر عليها موسكو إلى حد كبير. وإلى جانب الاتحاد الجمركي القائم، فإنّ الاتحاد الأوراسي قد يحدّ من قدرة أعضائه على إقامة صلات اقتصادية وسياسية مع العالم الخارجي، بينما يعزِّز من طموح بوتين لإنشاء أوراسيا خاضعة لسيطرة روسيا ومنافِسة جيوسياسيًّا للغرب. وإضافة إلى بيلاروس وكازاخستان، فإن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي قد يشمل أرمينيا وقيرغيزستان، كما أن طاجيكستان تفكر أيضًا بالانضمام إليه في نهاية المطاف(8).

وفي هذا السياق كانت الصين مشغولة بتسويق رؤيتها الخاصة بشأن التكامل الأوراسي، التي أعلنها الرئيس شي جين بينغ لأول مرة(9) في خطاب ألقاه في أستانا بكازاخستان في سبتمبر/أيلول 2013. ويعدُّ مشروع الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الذي تقوم عليه الصين مُخطَّطًا طموحًا لتحسين التواصل عبر أراضي أوراسيا الشاسعة؛ ما يخلق شبكة بنى تحتية تربط شرق وجنوب آسيا بأوروبا؛ فإنشاء بنية تحتية تجارية للتنقل عبر أوراسيا تتناسب مع تركيز الصين على التنمية الاقتصادية في مناطقها الغربية المضطربة، وخاصة شينجيانغ. وهو نابع -أيضًا- من قلق بكين إزاء صعود التطرف على حدودها في آسيا الوسطى واحتمالات عدم الاستقرار بعد رحيل الجيل الحالي من رجالها الأقوياء عن المشهد، فإنها تنظر إلى تعزيزها للبنية التحتية والتجارة بوصفه استثمارًا في الأمن على المدى الطويل.

والأهم من ذلك، فلدى بكين من الموارد ما يمكن أن يجعل رؤيتها واقعًا، وبالفعل استثمرت أكثر من 50 مليار دولار في آسيا الوسطى، كثيرٌ منها أُنفق على طرق جديدة وسكك حديدية وبنى تحتية من خطوط الأنابيب. وأعلن شي في أكتوبر/تشرين الأول 2014 أن الصين سوف تُنشئ صندوق استثمار قيمته 40 مليار دولار لإنشاء البنية التحتية التي يقوم عليها الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري ذي الصلة عبر جنوب شرق آسيا، أو ما تُطلِق عليه بكين: “حزامٌ واحد، طريقٌ واحد”(10). وفي هذا السياق، فإن البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي تبلغ حصة الصين فيه حوالي 30 مليار دولار، أي ثلث رأس ماله الأوّليّ الذي يبلغ 100 مليار، سيركز في كثيرٍ من قروضه على مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق(11).

وحيث إن علاقات روسيا والصين قد ازدادت توترًا مع الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، فقد بدأتا استكشاف التعاون في أوراسيا، رغم أن رؤية بكين بشأن التجارة العابرة للقارات ليس لديها الكثير من القواسم المشتركة مع خطط روسيا لتحقيق التكامل السياسي والاقتصادي بعد مرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي. واتفق كلٌّ من الرئيسين شي وبوتين في مايو/أيار 2015 على إقامة منتدى للحوار من خلال منظمة شنغهاي للتعاون بشأن الجمع بين مُخططات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والحزام الاقتصادي لطريق الحرير. وفي إطار الخطط التي يجري النقاش بشأنها، فربما تتمكَّن موسكو من الاستفادة من رأس المال الاستثماري الصيني، في حين يمكن لبكين أن تستفيد من فرص عبور جديدة وقيود جمركية مخفّفة بين حدودها الغربية وأوروبا(12).

إدارة التوقعات

يشي التعاون المتزايد بين روسيا والصين بالتحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة في تنفيذ رؤيتها الخاصة بأوراسيا. وكما أشار نائب وزير الخارجية أنتوني بلينكن في مارس/آذار 2015، إلى أن “تطوير الصين للبنية التحتية في آسيا الوسطى يمكن أن يكون مكمِّلًا تمامًا لجهودنا”(13). وأكد أيضًا أن الولايات المتحدة لا ترى في البرنامج الصيني منافِسًا لها، وأنها ترحِّب بروابط التجارة والتنقُّل في كل الاتجاهات، وليس فقط باتجاه الجنوب.

وبالفعل، فرغم أن معايير الصين الجغرافية الخاصة بالحزام الاقتصادي لطريق الحرير تختلف عن معايير الولايات المتحدة الخاصة بطريق الحرير الجديد، فإنّ المنطق الكامن وراء المشروعيْن متشابه؛ أي إقامة روابط تجارية وروابط نقل جديدة من أجل دمج آسيا الوسطى بشكل أفضل في الاقتصاد العالمي.

وفي حين أن الأهداف الأساسية للولايات المتحدة والنهج الصيني متشابهان، فإن أكبر عقبة في طريق دمج المشروعيْن هي السياسة. وفي الوقت نفسه، فإن التعاون الصيني الروسي في أوراسيا يتعاظم نتيجةً لفتور علاقة كل منهما مع واشنطن أكثر منه نتيجة لتقارب طبيعي بينهما. وقد أثارت العقوبات المالية الأميركية ضد روسيا قلق موسكو وبكين بشأن قدرة واشنطن على عزلهما عن الأسواق العالمية، ومن هنا فإن بذل الجهود لإنشاء مؤسسات موازية يبدو هدفًا أكثر إلحاحًا بالنسبة لهما، وبالتالي فإن التعاون بينهما في أوراسيا يتناسب مع هذه الأولوية الكبرى.

ومع ازدياد التعاون بين الصين وروسيا في أوراسيا، فإن اهتمام الولايات المتحدة التقليدي بتعزيز سيادة دول آسيا الوسطى يكتسب أهميةً جديدة. وبغض النظر عن مصير فكرتها بشأن طريق الحرير الجديد، سيظل للولايات المتحدة مصالح في آسيا الوسطى، بما في ذلك تأمين الاستقرار ومواجهة “التشدُّد”.

إن نجاح واشنطن في تحقيق الأهداف المحدودة التي تسعى إليها يتطلّب منها في السنوات القادمة تركيزًا أشد مع طموحات أكثر تواضعًا؛ لأنها مع رُؤى كبرى تعوزها الموارد يجب أن تركِّز على زيادة حضورها في المنطقة، وهذا يعني المزيد من التعاون مع بعض الأنظمة السيئة باعتراف الجميع، والمزيد من التعامل مع دول المنطقة على المستوى الثنائي مع ما يمكن أن يتطلّبه ذلك من تخصيص موارد كافية.

وبخلاف روسيا والصين، فإن الولايات المتحدة بعيدة عن آسيا الوسطى، ولن تكون أبدًا في موقع يسمح لها بالسيطرة على المنطقة سياسيًّا أو اقتصاديًّا، ومن المفارقة أن هذه المسافة هي التي تجعل من الولايات المتحدة شريكًا مُرحَّبًا به من الكثيرين في آسيا الوسطى الذين يُقلقهم احتمال السيطرة الروسية والصينية على منطقتهم. بل أكثر من ذلك، فإن الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستسعى إلى غسل يديها من آسيا الوسطى بمجرد خروج قواتها من أفغانستان قد عزَّز من المخاوف في المنطقة؛ ولهذا فإن تبديد هذه الأخيرة ينبغي أن يكون محلَّ تركيزٍ أساسي في سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.

وفي الختام، إن واشنطن تعيش في بيئة تحاول كلٌّ من روسيا والصين تحجيم قوتها فيها؛ لذا فهي بحاجة إلى أن تكون أكثر واقعية بشأن مصالحها وقدراتها في منطقة لا يسعها التخلي عنها.
______________________________________

** اللُّعبة الكبرى مصطلحٌ أُطلق على التنافس الاستعماري بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية على آسيا الوسطى، وقد امتدت هذه “اللعبة” منذ 1813 حتى 1907 على وجه التقريب.

المصادر
1- Strobe Talbott, “A Farewell to Flashman: American policy in the Caucasus and Central Asia,” U.S. Department of State Dispatch, Jul 1997, 8 (6): 10-14.
2–  “United States Foreign Policy in the States of Central Asia,” Brookings Institution, 12 Nov 2002,http://www.brookings.edu/events/2002/11/12asia  ,(accessed on 15 July 2015)
3- Andrew C. Kuchins, et al., “The Northern Distribution Network and the Modern Silk Road: Planning for Afghanistan’s Future,” Center for Strategic and International Studies, Dec 2009,http://csis.org/files/publication/091217_Kuchins_NorthernDistNet_Web.pdf  ,(accessed on 15 July 2015)
4– Uzbekistan suspended its membership in these organizations in 2012, and its current Foreign Policy Concept asserts that Tashkent will not join any military blocs or allow any foreign bases on its territory.
5- Hillary Rodham Clinton, “Remarks on India and the United States: A Vision for the 21st Century,” U.S. Department of State, 21 Jul 2011,http://www.state.gov/secretary/20092013clinton/rm/2011/07/168840.htm  ,(accessed on 15 July 2015)
6– Lynne M. Tracy, “The United States and the New Silk Road,” U.S. Department of State, 25 Oct 2013, http://www.state.gov/p/sca/rls/rmks/2013/215906.htm  ,(accessed on 15 July 2015)
7- Vladimir Putin, “Article by Prime Minister Vladimir Putin ‘A new integration project for Eurasia: The future in the making (‘Izvestiya’, 3 October 2011),” Russian Mission to the European Union,http://www.russianmission.eu/en/news/article-prime-minister-vladimir-putin-new-integration-project-eurasia-future-making-izvestiya-3-#sthash.ftnRW03c.dpuf  ,(accessed on 15 July 2015)
8- While Putin initially spoke of the Eurasian Union, the non-Russian members were wary of any arrangement that would compromise their sovereignty, and Moscow eventually agreed to calling the bloc the Eurasian Economic Union.
9–  “Xi suggests China, C. Asia build Silk Road economic belt,” Xinhua, 7 Sep 2013,http://news.xinhuanet.com/english/china/2013-09/07/c_132700695.htm  ,(accessed on 15 July 2015)
10-  “China to establish $40 billion Silk Road infrastructure fund,” Reuters, 8 Nov 2014,http://in.reuters.com/article/2014/11/08/china-diplomacy-idINL4N0SY0DC20141108  ,(accessed on 15 July 2015)
11– Mark Magnier, “How China Plans to Run AIIB: Leaner, With Veto,” Wall Street Journal, 8 Jun 2015.
12- Reid Standish, “China and Russia Lay Foundation for Massive Economic Cooperation,” Foreign Policy, 10 Jul 2015, http://foreignpolicy.com/2015/07/10/china-russia-sco-ufa-summit-putin-xi-jinping-eurasian-union-silk-road/  ,(accessed on 15 July 2015)
13- Antony J. Blinken, “An Enduring Vision for Central Asia,” U.S. Department of State, 31 Mar 2015,http://www.state.gov/s/d/2015/240013.htm  ,(accessed on 15 July 2015)

جيفري مانكوف
ترجمه للعربية: محمود محمد الحرثاني.

مركز الجزيرة للدراسات