على الرغم من أهمية العلوم الاجتماعية في العالم كله، إلا أنها لا تجد الاهتمام الكافي في مصر، وهي العلوم المختصة بدراسة الظواهر الاجتماعية والتغيرات المجتمعية، وكذلك إيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية وعلاج للظواهر المجتمعية. ولذلك، من السهل ملاحظة ازدياد المشكلات والتغيرات والتشوهات المجتمعية واستفحالها في مصر، بسبب ندرة الأبحاث الاجتماعية، أولا، وقلة المهتمين بالعلوم الاجتماعية، ثانيا، وتجاهل من في السلطة أي أبحاث أو دراسات أو تحذيرات أو توصيات خاصة بالعلوم الاجتماعية، أو الظواهر السياسية، أو التحولات المجتمعية. ولعل أبرز هذه الظواهر انتشار العنف وزيادته في مصر، يوما بعد يوم، حتى أصبحت عبارة (مصر بلد الأمن والأمان) من عبارات التراث والماضي، وأوشكت على التحول أسطورةً من الأساطير المصرية. فالشعب المصري يتحوّل، يوما بعد يوم، إلى مزيد من العنف والقسوة، ولعل كمّ الجرائم الجديدة على الشعب المصري خير دليل على ذلك. ولكن، على الرغم من ذلك، من النادر أن تجد دراسة عميقة تحلل هذا الأمر وتدرسه، وإن وُجدت، لم تجد سبيلا لاهتمامٍ أو النشر والمناقشة، وإن نوقشت فعلى المستوى الأكاديمي، أما السلطة التي تحكمنا فلا تهتم بهذه التفاهات، فالحرب من أجل السلطة أهم من كل شيء.
وتحمل معظم الدراسات السلطة دائما الجانب الأكبر من المسؤولية، بجانب صعوبة العيش وضيق الوقت وانحدار القيم والذوق، الذي تتحمل السلطة، أيضاً، جانبا كبيرا مهما، فالسلطة/ الحكومة/ منظومة الحكم هي المسؤولة عن التعليم وغرس القيم وفرض النظام والقانون على الجميع. ولكن، ماذا تتوقع من مجتمعٍ يتلقّى كل يوم خطاباً، يحرّض على كراهية المختلفين مع السلطة/ النظام، ويحرّض على قتلهم، أو حبسهم، باعتبارهم خونة وطابورا خامسا؟ وماذا تتوقع من مواطن لا يجد عدلاً ولا إنصافاً من الشرطة والقضاء؟ وماذا تتخيل أن يكون رد فعل مواطن يعاني من الظلم وغياب العدالة، أو مواطن يعاني من التمييز ضده، أو يعاني من المحسوبية وغياب تكافؤ الفرص، ولا يجد من ينصفه ويعيد له حقه.
ماذا تتوقع من مواطن يلجأ إلى الشرطة للشكوى من الظلم أو البلطجة أو السرقة، ولا يجد اهتماما لأنه بدون (ظهر)، أو يسمع عبارات مثل “استعوض ربنا، علشان مش هنعرف نعملك حاجة”، أو “خد حقك بذراعك”.
وماذا تتوقع من شبابٍ تم حبسه ظلماً، بسبب وجوده مصادفة بجوار مظاهرة أو قريب أو أخ أو أب أو صديق تم اعتقاله، أو قتله، لأنه يعارض النظام؟ بالتأكيد، للسلطة دائما الدور الأكبر، إيجاباً أو سلباً، في نشر ثقافة العنف وقيم القسوة، بدلا من قيم الرحمة.
حذر كثيرون من انتشار ثقافة العنف والعنف المضاد أو العنف السياسي، سواء قبل “30 يونيو” أو بعدها، بل كان هناك وقت كان الإعلام، وقوى سياسية كثيرة، تسخر ممن يدين العنف بكل أشكاله، أو تلقي اللوم عليه، فهناك دائما من يرى أنه لا بد من العنف تجاه الآخر، هناك من يعتبر العنف متاحاً ومطلوباً تجاه من يعتبره عدواً للوطن أو للدين أو للأيديولوجيا، فكما أن الإسلاميين يعتبرون أن دم أعداء الدعوة حلال، تجد أنصار عبد الفتاح السيسي لا يُلقون بالاً لدماء من يعتبرونهم أعداء الوطن من المعارضين أو الحقوقيين أو النشطاء، فكما يعتبر المتطرفون الإسلاميون أن دماء الأبرياء ضرورة في سبيل الدعوة والهدف الأكبر، ستجد أن السيسي قد قال في أحد اللقاءات الإعلامية، في بداية فترته، إنه لا مشكلة في التضحية بمليون أو أكثر في سبيل 90 مليونا.
الكارثة الأكبر أن هذه الثقافة لا تقتصر على طرفي الصراع، أو ذوي الرؤية الأحادية فقط، بل، للأسف الشديد، هناك من برّر العنف، ولو على نطاق بسيط من أجل تحقيق الأهداف السامية، وكذلك ستجد تبريرات العنف لدى كل الأفكار والأيديولوجيات السياسية، بل سيجد أي باحث أو قارئ في التاريخ أن مصر مرّت بأحداث أو فترات متعددة، كان فيها العنف منتشراً ومبرراً، وإن كان ليس بهذا الكمّ الضخم الذي هو عليه الآن.
كان هناك بعض العنف في ثورة 1919 وبعض الفوضى وبعض الضحايا الأبرياء الذين لا يتذكرهم أحد، وكذلك تظاهرات إسقاط دستور 1936، وما قبل 23 يوليو 1952، وأحداث 1954 وانتفاضة 1977، وأحداث كبرى عديدة مرت على مصر. ولكن، بشكل عام، هناك عشرات المقالات والدراسات الحالية التي ترى أن العنف السياسي أو المجتمعي المنتشر في مصر الآن يعتبر خطيراً وغير مسبوق، وأدى إلى شرخ خطير، من الصعب أن يلتئم عدة عقود قادمة، وأن السلطة التي تحكمنا الآن ذات العقلية العسكرية تتحمل المسؤولية الأكبر، بل وتشجع على مزيد من الكراهية والعنف والانقسام في المجتمع، عن طريق الإعلام الذي يتم توجيهه بشكل كامل من الأجهزة الأمنية، ظنا منها أن إفناء الآخر، أو قمع أي أصوات معارضة، هو الحل، وهو ما سيؤدي للاستقرار. والنتيجة كل ما نراه من عنف وقسوة ودموية، تنتشر في المجتمع، وتزداد يوماً بعد يوم.
أحمد ماهر
صحيفة العربي الجديد