تتواصل التظاهرات الشعبية في العراق ويتواصل معها ارتفاع أعداد القتلى في كل يوم وبصورة غير متوقعة. فرغم اعتياد مشهد التظاهرات الشعبية التي تحدث بصورة متقطعة منذ نحو عامين، جاء رد الحكومة العراقية أكثر عنفا بصورة تشير إلى استنفاد كل وسائل الضبط والهيمنة التي تم اتباعها في السنوات الماضية، إذ لم يبق سوى العنف المفرط لإخماد موجة الاحتجاجات.
فمن جهة، انتهت الحرب على تنظيم داعش والتي كانت توحّد العراقيين وتجعلهم يكتمون أوجاعهم الداخلية الناتجة عن فساد وتهتك النظام الاقتصادي والسياسي الذي تديره النخبة الحاكمة. سقطت ذريعة مواجهة داعش من يد الحكومة العراقية التي استخدمتها كسيف مسلط على رؤوس العراقيين، كان دوما يمنعهم من الاحتجاج بانتظار زوال الخطر الداعشي المحدق بهم.
وفضلا عن ذلك، ليس بإمكان الحكومة العراقية حل المظالم التي يشتكي منها العراقيون، وهي تتعلق بغياب التنمية الاقتصادية والاجتماعية وغياب فرص العمل والحد الأدنى من الخدمات الحكومية. الحقيقة أن هذا الأمر لا يتطلب سياسة مختلفة عن تلك المنتهجة حاليا من قبل النخبة السياسية بل يتطلب نخبة جديدة.
وهذا ما يفسر العنف المفرط الذي توظفه الحكومة العراقية للدفاع عن وجودها ولمنع الوضع الأمني من الخروج عن السيطرة. أما السبب الثاني الذي يدفع السلطات العراقية نحو العنف فهو استهداف التظاهرات للنفوذ الإيراني في البلاد. ويبدو أن التركيز على إيران جاء ليحل مشكلة طالما واجهتها التظاهرات العراقية في السابق، وهي غياب رمزية معينة يجري توجيه النقمة الشعبية والتظاهرات ضدّها.
فحيث تخرج التظاهرات الشعبية في بلدان العالم، يجري توجه السخط الشعبي على من يمثل الوضع القائم ويرمز له. قد يكون ذلك رئيس الدولة الذي يحكمها بقبضة حديدية أو الحزب الحاكم. ويشكل هذا الوضوح عامل توحيد للمتظاهرين كما أنه يقدم رؤية مبسطة للمشكلة وللحل لجمهور عفوي غير قادر على إنتاج تلك الرؤية في ظل غياب التنظيمات السياسية الفاعلة.
لقد أمكن توجيه النقمة الشعبية في بلدان عربية عديدة، مثل الجزائر والسودان، نحو سلطة مركزية والمطالبة بإنهاء الهيمنة على السلطة وتحقيق مشاركة سياسية بما يسمح بالبدء بعملية تنمية وتطوير. المشكلة في العراق هي أن النظام السياسي ليس مركزيا حيث تتوزع فيه السلطة بين عدد من الأحزاب ينتقد كل منها الآخر كما أنها تصل إلى السلطة عبر انتخابات حرة نسبيا وتخضع للرقابة الدولية.
دفع ذلك المتظاهرين إلى اختيار إيران كرمز للوضع البائس القائم ومهاجمتها في التظاهرات. لقد ازداد النفوذ السياسي والاقتصادي لإيران على العراق منذ الاحتلال الأميركي. وقد عززت طهران من هيمنتها تلك بذريعة الحرب على داعش، فأنشأت ميليشيات الحشد الشعبي التي يتهمها الكثيرون اليوم بالمسؤولية عن العنف المفرط ضد المتظاهرين.
لقد وعد رئيس الوزراء العراقي، عادل عبدالمهدي، والذي وصل إلى السلطة قبل نحو عام، بإجراء إصلاحات كبيرة ومحاربة الفساد وتوظيف موارد الدولة العراقية النفطية بصورة تصبّ في صالح الطبقات الشعبية المتضررة.
ولكن، حتى اليوم، لا يبدو المهدي قادرا على إجراء الإصلاحات الموعودة كما أنه عاجز عن ضبط ميليشيات الحشد الشعبي وهو ما عزز نظرة الشارع العراقي للحكومة كجهاز عديم السلطة وتابع للهيمنة الإيرانية ومهمته الوحيدة هي توزيع غنائم السلطة على الأطراف المشاركة. ويبدو الوضع بالنسبة للعراقيين هيكليا، بمعنى أن التحسينات موضعية وطفيفة، ويشمل ذلك انتخابات برلمانية جديدة، لن تحل المشكلة.
ولكن مواصلة التحشيد الشعبي والدفع باتجاه تغيير حقيقي يتطلب الذهاب إلى أبعد من مجرد مهاجمة الهيمنة الإيرانية وإبداء النقمة على الوضع القائم. يتطلب الأمر طرح مطالب قابلة للتنفيذ والدفع نحو تنفيذها واحدة بعد الأخرى تحت الضغوط الشعبية. لا بد من طرح بديل عن النظام السياسي القائم ينهي المحاصصة الطائفية التي تكرسها إيران بهيمنتها الاقتصادية والأمنية.
لا يسمح النظام السياسي الحالي ببروز معارضة حقيقية، إذ أن لكل طرف من الأطراف المشاركة حصة ما في السلطة وشبكة من علاقات الفساد والزبائنية، ما يجعل استمرار الوضع القائم مصلحة للجميع. مع غياب المعارضة السياسية الحقيقية غابت مبادئ الشفافية والمحاسبة واستشرى الفساد.
المطلوب، إذن، هو إعادة هيكلة النظام السياسي بما يمنع تقسيم الغنائم على جميع الأطراف كما يجري اليوم ويساهم في بروز تيار معارضة قوي وواضح المعالم يقوم على ممارسة السياسة بما هي صراع بين برامج اقتصادية- اجتماعية. قد يكون ذلك من خلال التحوّل إلى نظام رئاسي أو بإجراء تعديلات جوهرية على النظام البرلماني والدستور.
ويبقى السؤال حول مدى قدرة جماهير عفوية غاضبة وغير منظمة على طرح برنامج محدد للتغيير السياسي. على الرغم من عدم إمكانية التفاؤل بحدوث ذلك في الوقت الحالي، سوف تطرح التظاهرات المستمرة هذا السؤال على العراقيين المعنيين بالتغيير السياسي.
العرب