بدأت السلطات الإيرانية، هذا الأسبوع، إجراءات صياغة موازنة جديدة للبلاد للعام 2020، على وقع حرب اقتصادية شرسة، تتعرض لها نتيجة العقوبات الأميركية “الشاملة” عليها منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في الثامن من أيار/مايو 2018، واستهدافها شريان الاقتصاد الإيراني وموارده الرئيسة، في مقدمتها الصادرات النفطية. واقع دفع الحكومة الإيرانية إلى التوجه نحو تبني موازنة غير مسبوقة في تاريخ إيران من دون الاعتماد على عوائد النفط.
وأطلقت إيران عملية صياغة موازنتها للعام المالي المقبل، بعدما أقرت في الثالث عشر من الشهر الحالي، من خلال المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي، الذي تشكّل العام الماضي لمواجهة تداعيات العقوبات الأميركية، مشروع إصلاح هيكلية موازنة الدولة، التي صادق عليها البرلمان الإيراني في يناير/ كانون الثاني الماضي.
ملامح الموازنة الجديدة
ويبدأ العام الإيراني الجديد في 20 مارس/آذار 2020، إلا أن رسم الموازنة الجديدة لا يزال في بدايته. ولم تنطلق بعد عملية الصياغة لمعرفة بنود الموازنة وخاصة الإنفاق العام ومخصصات الوزارات وغيرها ومدى تأثرها بالعقوبات الأميركية والظروف الاقتصادية الراهنة للبلاد.
إلا أنه من خلال التعميم الذي أصدره الرئيس حسن روحاني وتصريحات أخرى للمسؤولين الإيرانيين المعنيين يمكن استشفاف ملامح الموازنة الإيرانية لعام 2020، والتي من المقرر أن تنهي الحكومة إعدادها لتعرضها على البرلمان في السادس من ديسمبر/كانون الأول المقبل.
ودعا روحاني أجهزة الدولة الإيرانية إلى أن تبني موازناتها المقترحة على أسس أربعة محاور، هي “إيجاد عوائد مستدامة، وتكلفة الأداء، والاستقرار الاقتصادي، وتحقيق التنمية والعدالة والإصلاحات في آليات صياغة الموازنة”.
كما أكد الرئيس الإيراني أن تكون اتجاهات الموازنة الجديدة هي “النمو طويل الأمد وإيجاد استقرار اقتصادي قصير المدى، وتحقيق التقدم المتوازن والشامل وإصلاح هيكلية الحكومة”، مطالبا بأن تركز أجهزة الدولة على اتساق مقترحاتها مع الإصلاحات البنيوية المعنية في رسم هيكلية الموازنة، والسياسات العامة المرتبطة بنظرية الاقتصاد المقاوم.
بالإضافة إلى ما سبق، تضمن تعميم روحاني التأكيد على ضرورة “الانضباط المالي وإلغاء التكاليف الإضافية وغير الضرورية، والرقي بالإنتاجية، ورفع العوامل المخلة بالنمو الاقتصادي وتحسين أجواء العمل والتجارة والبحث عن آليات لزيادة الموارد العامة”.
خصائص بارزة
إلى جانب الملامح العامة للموازنة الإيرانية الجديدة، التي وردت في التعميم الإداري للرئيس الإيراني، إلا أن ثلاث خصائص بارزة، تميزها عن سابقاتها؛ الأولى أنه للمرة الأولى تقدم إيران مشروع الموازنة لعامين، وليس لعام واحد، أي عامي 1399 و1400 الإيرانيين (يبدأ من 20 مارس/ آذار 2020 وينتهي في 19 مارس 2021).
والخاصية الثانية، بموجب موقع “تجارت امروز” الإيراني، هي ارتكاز الموازنة على “البرنامج” من دون تخصيص اعتمادات محددة لهذا الجهاز أو ذلك، أي أنه يتم تحديد هذه الاعتمادات بناء على برامج وأهداف الأجهزة الإيرانية على المديين القصير والمتوسط.
كما أنه خلال السنوات الماضية، كان يتم توزيع الموازنة بناء على الاعتمادات لألف جهاز إيراني، لكن هذا العام وبحسب تصريح لرئيس منظمة التخطيط والموازنة في إيران، محمد باقر نوبخت، قبل أيام، تم تقليل العدد بعد تقسيم الأجهزة إلى صانعة للقرار في العاصمة وأجهزة منفذة في المحافظات.
وأضاف نوبخت أن مشروع الموازنة، الذي سترسله الحكومة للبرلمان للمصادقة عليه، يتضمن فقط موازنة الأجهزة الصانعة للقرار، وأن موازنات الأجهزة المنفذة ستتم المصادقة عليها في المجلس الوزاري.
والخاصية الثالثة، وهي الأهم، أن إيران ولأول مرة تبني مشروع الموازنة للعامين من دون الاعتماد على عوائد النفط في الإنفاق العام؛ إذ قال محمد باقر نوبخت رئيس منظمة التخطيط والموازنة، المعنية بإعداد مشروع الموازنة للبلاد، إن الموازنة لن تعتمد على عوائد النفط، مشيرا إلى أنها لن تخصص للإنفاق العام، وإنما للمشاريع العمرانية.
وبحسب تحليلات إيرانية، ما دفع الحكومة إلى إلغاء الاعتماد على النفط في ترسيم الموازنة، هو الصعوبات في تحصيل العوائد المخمنة من صادرات النفط على ضوء تشديد العقوبات على هذا القطاع، خلال العام الحالي.
واقع تسبب بعجز كبير في موازنة 2019، حيث يقدر خبراء اقتصاد بأنه قد يصل إلى 100 ألف مليار تومان أي حوالي 8.7 مليارات دولار (سعر كل دولار أميركي يساوي 11500 تومان في السوق الإيرانية)، بينما تبلغ قيمة الموازنة الإيرانية الحالية 447 ألف مليار تومان. واضطرت الحكومة سابقاً إلى بيع أوراق وسندات مالية بقية 76 ألف مليار تومان على دفعتين، كذلك السحب من الصندوق الوطني للتنمية، لتسيير أمور الدولة.
إجراءات تقشفية
وذكر نوبخت أن الموارد البديلة لعوائد النفط، في الموازنة الجديدة تشمل إلغاء الدعم الحكومي للطاقة للمواطنين الإيرانيين وإيجاد موارد ضريبية جديدة للحكومة واستغلال بقية موارد وممتلكات الحكومة. وبحسب بيانات الوكالة الدولية للطاقة فإن إيران تتصدر الدول التي تقدم الدعم في مجال الطاقة لمواطنيها، حيث دفعت خلال العام 2018، 69 مليار دولار في هذا المجال.
وتقول المصادر الإيرانية إن الحكومة الإيرانية تسعى إلى زيادة الدعم الحكومي النقدي الشهري لأصحاب الدخل المحدود بعد إلغاء الدعم للطاقة المستهلكة في البلاد، لكيلا يؤثر ذلك سلبا على وضعهم المعيشي.
كما تسعى الحكومة الإيرانية، خلال العام المالي المقبل، إلى ترشيد الدعم الشهري المقدم للمواطنين من خلال حذف هذا الدعم لأصحاب الدخل الوفير. ويتلقى قرابة 78 مليون مواطن من مجموع 82 مليوناً عدد سكان البلاد، مبلغا نقديا شهريا منذ العام 2010، هو 45 ألف تومان. ويصل هذا المبلغ للإيرانيين المتلقين للمعونات من “لجنة الإمام الخميني للإغاثة” إلى أكثر من 100 ألف تومان لكل شخص.
وكان النفط حتى وقت قريب يشكل المورد الرئيس لتمويل الموازنة الإيرانية، قبل أن تقرر تقليل الاعتماد عليه بالتدرج خلال السنوات الأخيرة بسبب العقوبات الأميركية. ففي العام 2017، صيغت الموازنة بناء على تصدير مليونين و600 ألف برميل يوميا، لكن قللت ذلك في موازنة العام 2018 إلى مليون و500 ألف يوميا إلى أن تراجع الاعتماد على الذهب الأسود بعد تصدير 300 ألف برميل يوميا في العام 2019.
التوجه نحو حذف النفط من موارد الموازنة في إيران بحد ذاته يحمل مؤشرات في اتجاهات عدة، الأول مدى نجاح الحظر الأميركي “التام” على النفط الإيراني، والذي فرضته واشنطن اعتبارا من الثاني من أيار/مايو الماضي، والثاني هو إنهاء عهد الاقتصاد الريعي في إيران والتحرر منه.
وفي هذا السياق، اعتبر البعض في داخل إيران من شخصيات رسمية ومحللين أن العقوبات الأميركية رغم صعابها تمثل “نعمة” للبلاد لإصلاح المشاكل البنيوية الداخلية في الاقتصاد الإيراني، والتي تساهم بشكل كبير في مضاعفة تداعيات وآثار المؤثرات الخارجية مثل العقوبات.
العربي الجديد