في السادس عشر من ديسمبر (كانون الأول) عام 1998 شنّت الولايات المتحدة بتحالف مع المملكة المتحدة هجوماً صاروخياً واسعاً ضد العراق، أطلقت خلاله أكثر من 400 صاروخ من نوع “توماهوك” بعيد المدى على مدى أربعة أيام، وشاركت فيه طائرات أميركية وبريطانية والبوارج والسفن الحربية الأميركية في البحر الأحمر، إضافة إلى قاذفات B52 انطلقت من قاعدتَي “دييغو غارسيا” البريطانية و”العديد” القطرية.
الذريعة المباشرة لذلك الهجوم انطلقت من إعلان اللجنة الدولية للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق سحب المفتشين من هذا البلد بعد رفضه السماح لهم بالدخول إلى ثلاثة مواقع، في حين أجمع معظم المراقبين والسياسيين على أن أحد الأسباب الرئيسة لهذا الهجوم هو استباق الجلسة الأولى المقررة للمحكمة العليا التي عُقدت لاحقاً في 15 يناير (كانون الثاني) 1999 في قاعة مجلس الشيوخ الأميركي لمحاكمة الرئيس بيل كلينتون المنتمي إلى الحزب الديمقراطي، بتهمتَي الحنث باليمين وتضليل العدالة في القضية – الفضيحة الخاصة بالمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، إذ كان المُدّعون على الرئيس الذين عيّنهم المجلس كهيئة اتهام في القضية، جميعهم من الحزب الجمهوري.
وأسّست هذه الجلسة لمسار قضائي لإدانة الرئيس وما تلا ذلك من تداعيات سياسية انتهت إلى تهشيم سلطاته وصدقيته، ما وضع كلينتون والبيت الأبيض أمام تحدي البحث عن مخارج لاستعادة ما فقده من صدقية وترميم الهيبة المهتزة. ولم تستطع هذه العملية رأب الصدع في شعبية الحزب الديمقراطي وأسّست لعودة الحزب الجمهوري إلى البيت الأبيض عبر مرشحهم جورج دبليو بوش الذي لم يلبث أن أعلن عام 2003 حرباً شاملة ضد النظام في العراق وأسقطه.
في تلك المرحلة، شكّل العراق والتعامل معه ورقةً أساسية في المعركة السياسية والانتخابية بين الحزبين، في وقت لم تكن مسألة الإرهاب مطروحة ولم يكن تنظيم القاعدة شنّ هجماته على مبنيَي التجارة العالمية في نيويورك أو ما يُعرف بأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. واستغل الجمهوريون أخطاء كلينتون لإضعاف الديمقراطيين ووصلوا به إلى حدود الإقالة التي لم تحصل، ويبدو أن السيناريو نفسه يتكرر بين الديمقراطيين والرئيس الجمهوري دونالد ترمب، في معركة قد يصحّ فيها وصف “الانتقام”، فعلى الرغم من معرفة الديمقراطيين بصعوبة الوصول إلى قرار “عزل” الرئيس بسبب غلبة الجمهوريين في مجلس الشيوخ، إلا أن الجروح التي ستتركها هذه المعركة على حزب الرئيس والفاتورة الأخلاقية والشعبية التي سيدفعها، قد تكون مرضية لهم وتعزّز احتمالات فوز مرشحهم المفترَض جو بادين في الانتخابات الرئاسية وبالتالي عودتهم إلى البيت الأبيض.
واللافت في هذا السياق، هو التوقيت الذي جاء فيه الاتهام للرئيس ترمب، إذ جاء بعد شهرين فصلا بين الجلسة التي جرت في 25 يوليو (تموز) الماضي، وتم الاستماع فيها إلى تفاصيل المحادثة الهاتفية، التي تمّت بينه وبين نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وبين خروج رئيسة مجلس النواب نانسي بلوسي في 25 سبتمبر لتعلن عن إطلاق الإجراءات الممهدة لاستجواب الرئيس، في ما سمّته “فضيحة استغلال منصبه” في الضغط على نظيره الأوكراني من أجل الحصول على ملفات تنال من هانتر بايدن نجل منافسه الديمقراطي المحتمل جو بادين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وما يشكله ذلك من تلاعب بالأمن القومي الأميركي.
وأتى قرار بلوسي رفع الخرق الذي يُتهم به ترمب إلى مصاف المساس بالأمن القومي، في الفترة الفاصلة بين الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثلاثاء 24 سبتمبر وخطاب الرئيس الإيراني حسن روحاني يوم الأربعاء 25 سبتمبر. وقد يُسقط ذلك الخيارات المتاحة للرئيس الذي يتبنى عقيدة الابتعاد عن إشعال الحروب المباشرة بين أميركا وأيّ دولة في العالم، كما يُسقط الخيارات من أمام الحزب الجمهوري الداعم للرئيس، بالذهاب إلى اعتماد خيار الهروب إلى الأمام على غرار ما فعله كلينتون عام 1999، وذلك من خلال اللجوء إلى خيار توجيه ضربة عسكرية محدودة لإيران، بغض النظر عن نتائجها التي قد تتحوّل إلى حرب شاملة متدحرجة تطاول كلّ منطقة الشرق الأوسط ولا تُعرف تداعياتها.
الجانب الإيراني من جهته، لم يتردّد في استفزاز ترمب وإدارته، ففي الوقت الذي أفشل كل المساعي الدولية والاستعداد الأميركي لعقد قمة ثنائية بين الرئيسين (الأميركي والإيراني) وفتْح حوار مباشر حول كل الأزمات والملفات، ذهب إلى خيار اللعب على التناقضات الداخلية الأميركية في الصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، من خلال ما كشفه روحاني بعد عودته من نيويورك بأنه عقد اجتماعات ولقاءات مع مسؤولين أميركيين سابقين، ديموقراطيين على الأرجح. وقد يُعتبَر ذلك دخولاً إيرانياً على خط التأثير في معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ويحمل رسالةً إلى ترمب الجمهوري الذي يتهم الديمقراطيين وخصوصاً وزير الخارجية السابق جون كيري بالتآمر على إدارته وتقديم النصائح للنظام الإيراني برفض التفاوض معه وتأجيل أي إجراء إلى ما بعد الانتخابات، ما يهدّد بإفشال كل الجهود التي يبذلها لمحو الإرث الذي وصل إليه من سلفه باراك أوباما، ويرفع من حظوظ منافسه الديمقراطي بادين، على قاعدة التزام الديمقراطيين بالعودة إلى الاتفاق النووي في حال فوزهم في الانتخابات وإقصاء ترمب.
المرحلة المقبلة قد تكون معقدة الخيارات أمام الرئيس ترمب، فإما أن يتمسك بالعقيدة التي يتبعها بالابتعاد عن خيار الحرب، وبالتالي يسمح لمنافسيه الديمقراطيين بإحراجه أكثرّ فأكثرَ أمام الحزب الجمهوري، ما قد يفرض تراجعاً في شعبيته الانتخابية، وإما أن يلجأ إلى خيار التفتيش عن مخرج لتنفيس هذه الأزمة على غرار سلفه كلينتون، وهنا ستكون إيران مرشحة لعملية عسكرية بسبب ما تشهده العلاقة معها من توتّر وعقوبات غير مسبوقة، ما يعني فتح معركة غير معروفة النهاية والمآلات، وفي كلتا الحالتين سيكون بين خيارين أحلاهما مرّ.
اندبندت العربي