تتوفر في العراق جميع ظروف الاحتجاج، والفساد ليس سمة من سمات سوء الإدارة فحسب إنما هو إطار عام تعيش في ظله مؤسسات أحد أغنى بلدان العالم العربي وخامس أكبر مصدر للنفط في العالم.
وبحسب مؤسسة الشفافية العالمية، يحتل العراق المركز 168 من أصل 180 دولة على اللائحة، في الوقت الذي بفتقر فيه للخدمات الأساسية بشكل منتظم في ظل معدل بطالة يصل إلى 20 في المئة بحسب أرقام رسمية صادرة هذا العام، وهو ما يجعل من التظاهرات الصغيرة للخريجين أمام مقرات رئاسة الوزراء والوزارات المختلفة نشاطا يوميا يُعزى بشكل رئيسي إلى سوء الإدارة وتفشي الفساد وظاهرة بيع الوظائف على مستويات مختلفة.
خلال السنوات الماضية شهدت شوارع مدن عراقية عديدة تظاهرات واعتصامات شعبية كانت تتضمن إلى جانب المطالب المعيشية شعارات سياسية تتصاعد من مطالبات بتغيير نظام الحكم مما هو عليه إلى رئاسي، وصولا إلى رفض للتأثير الإيراني المتنامي في البلاد، كما حدث في موجتي ٢٠١٨ في البصرة و٢٠١٩ عندما حُرق العلم الإيراني ونادى متظاهرون بوضع حد للنفوذ الإيراني.
في موجة هذا العام، كان من بين المحفزات قرار رئيس الحكومة عادل عبد المهدي اقالة الفريق عبد الوهّاب الساعدي من قيادة قوات مكافحة الإرهاب ونقله إلى وزارة الدفاع، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة على المستويين الشعبي والسياسي لا سيما وأن الساعدي لعب دورا كبيراً في الحرب على ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية واستعادة مناطق عراقية بما في ذلك الموصل ومناطق في جنوبي الرمادي ومركز محافظة الأنبار.
وقد وضعت الإقالة في سياقين متقابلين، واحد يقول إن الإقالة كانت انقلابا إيرانيا للإتيان بشخصية مقربة من طهران لا سيما وأن حلفاءها في العراق ينظرون إليه كرجل واشنطن في بغداد. ويؤكد الذين يذهبون في هذا الإتجاه أن الساعدي كان يشكل حجر عثرة في وجه التدخلات الإيرانية وتمدد هيئة الحشد الشعبي وبناء على ذلك تزايد الضغط على رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي لإقالته، ودفع بالجنرال الذي يوصف بـ “رومل” العراق للاعتراض على قرار رئيسه وطلب إحالته للتقاعد وهو ما لم يحدث.
في المقابل لا يتعاطى مؤيدو إيران مع إقالة الساعدي بشكل مباشر، لكنهم وضعوا خروج التظاهرات في إطار “إنقلاب عسكري” مصحوب بـ”بثورة ملوّنة” الهدف منها تغيير سياسات الحكومة العراقية الخارجية مع الصين وإيران وروسيا، وتأسيس “حكومة تابعة للإحتلال الأميركي وإحداث شرخ وصدام شيعي شيعي”.
ولعل كلام، فالح الفياض، رئيس هيئة الحشد الشعبي ، المكون من فصائل غير نظامية لكنه تحول إلى تشكيل قتالي رسمي تتحالف بعض فصائله مع إيران ، عن إستعداد قواته لمساندة الحكومة ضد من وصفهم بالمتآمرين على إستقرار العراق تأكيد على اتجاه المعسكر الموالي لطهران في بغداد.
وقال الفياض في مؤتمر صحافي في بغداد الإثنين إن “هنالك من أراد التآمر على استقرار العراق ووحدته” وإن الحشد الشعبي، الذي يعمل تحت إمرة رئيس الوزراء، يريد “إسقاط الفساد وليس إسقاط النظام”، في رد على شعارات المتظاهرين على امتداد أسبوع من الاحتجاجات الدامية التي أسفرت عن مقتل أكثر من مئة شخص، بحسب الإحصاءات الرسمية.
وهناك في هذا السياق رأيان، الأول يقول إن الحراك الشعبي جاء ردا على مؤامرة إيرانية لتثبيت النفوذ، والآخر يقول إن الحراك الشعبي كان نتاج مؤامرة لضرب التأثير الإيراني في العراق خدمة لمصالح الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها.
وبناء عليه فإن خروج العراقيين إلى الشوارع وسقوط عشرات القتلى في الأيام الماضية يبدو كأنه وقع ضحية لقرصنة إقليمية دولية تحاول سحبه من إطاره المطلبي الخدمي السياسي لتوظفه في الصراع الأميركي-الإيراني، الذي كانت التوقعات تشير دوما إلى أن العراق سيكون إحدى ساحاته الرئيسية.
العراق: متظاهرون يتحدون حظر التجوال في بغداد وارتفاع حصيلة القتلى
مصدر الصورةGETTY IMAGES
Image caption
عادل عبد المهدي رئيس وزراء العراق
لا تجد إيران حرجا في التأكيد على أهمية العراق لأمنها القومي وفي استراتيجيتها الإقليمية العابرة للحدود والتي جعلتها تمدد نفوذها من حدودها الجغرافية إلى شواطئ البحر المتوسط، كما في حال لبنان وسوريا وقطاع غزة، وإلى مياه المحيط الهندي والبحر الأحمر كما في حال اليمن. لذلك يحضر العراق بشكل دائم في زيارات المسؤولين الإيرانيين على المستوى الدبلوماسي والسياسي، كما أن الفصائل العراقية الموالية لطهران تعتبر اليوم لاعبا رئيسا في اللعبة الأمنية والعسكرية الإقليمية. فقد لعبت هذه المجموعات المسلحة دورا رئيسيا في الاستراتيجية الإيرانية في سوريا، وهي متهمة من قبل الولايات المتحدة الأميركية بأنها قامت باستهداف السعودية في هجمات آيار/ مايو على خط شرق غرب النفطي بالقرب من الرياض، وكما وهددت في مناسبات عديدة بأنها ستقف إلى جانب إيران بكل ما أوتيت في حال تعرضها لأي اعتداء أميركي.
لكن حكومة طهران تضع الأمور في إطار مغاير، فهي ترى أن النفوذ الأميركي السياسي والعسكري في العراق موجّه ضدها بالدرجة الأولى، وامتناعها عن المبادرة بشكل استباقي لتفريغ هذا الحضور من قوته سيجعلها مكشوفة أمام الخطط الأميركية لإسقاطها بشكل مباشر أو بالواسطة، وبالتالي تتعامل إيران بريبة مع كل الشعارات التي ترفع ضدها، وتحديدا إذا ما رفعت من قبل محتجين شيعة، وتفسرها بأنها تأتي في سياق “التآمر الأميركي” لا ضمن سياق الاعتراض الشعبي العراقي على سياستها المباشرة في البلاد، أو غير المباشرة عبر حلفائها من الفصائل أو السياسيين المشاركين في المنظومة المتهمة بمأسسة الفساد، إلى جانب آخرين.
وبينما لا يبدو مصير المظاهرات الأخيرة، رغم عدد القتلى الكبير، أفضل بكثير من مصير مظاهرات السنوات السابقة، إذ أن انحسارها يبدو وكأنه يأخذ مفعوله تدريجيا، يؤكد العراق مجددا أنه دولة تعمل على نبض الصراعات الإقليمية والدولية. فحتى عندما تكون منطلقات أي تحوّل ذات منشأ داخلي أو محفزّة بمنطلقات خدمية واجتماعية وإصلاحية داخلية، فممرها الإجباري يكون عبر ما يمكن وصفه بحقل التجاذب الأميركي الإيراني الذي بطبيعة الحال سيحاول أن يقرصنه ليجري توظيفه في قلب الصراع الذي يبدو أنه بدأ يأخذ أشكالا مختلفة عن المواجهات العسكرية والصراعات السياسية.
بي بي سي العربي