“يجب الحفاظ على الجذور المسيحية المشتركة لأوروبا”. هذا ما تنادي به أحزاب متشددة في بلدان مختلفة من أوروبا، الأمر الذي يستنفر قواعدها الشعبية، وإن لم تتمكّن من تحقيق فوز كبير في صناديق الاقتراع أخيراً.
في خلال انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، في مايو/ أيار الماضي، لم تحصد الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرّفة الأرباح الكبيرة التي توقّعها البعض، على الرغم من أنّها حقّقت مكاسب في بعض البلدان. لكنّ التحالف القائم بين الأحزاب الشعبوية والقوى المسيحية المتطرّفة بات يتجاوز الحدود القومية لدول القارة الأوروبية. ويتداعى معسكر “الحفاظ على القيم المسيحية”، من روسيا إلى الولايات المتحدة الأميركية ودول القارة الأوروبية، لتحميل المهاجرين، المسلمين خصوصاً، مسؤولية تدهور تلك القيم، إلى جانب الحركات النسوية والأقليات الأخرى في المجتمعات، مع تبنّي خطاب ترهيبي يجعل من وعود “استعادة القيم المسيحية” ناظماً لتحركاته المستقبلية. وتستغل القوى المسيحية المتطرّفة والأحزاب الشعبوية كلّ منبر متوفّر لاستدعاء مزيد من الاصطفاف في سبيل تحقيق أهدافها، لتبادل الدعم السياسي وتبنّي تشريعات تعزّز فكرة دور الدين كناظم لمؤسسات تلك المجتمعات والحفاظ على العائلة. وفي السياق، تحوّل “المؤتمر العالمي للعائلات” بنسخته الثالثة العشرة، والذي عُقد في فيرونا شماليّ إيطاليا في الأيام الثلاثة الأخيرة من مارس/ آذار 2019، برعاية يمينية متشدّدة هذه المرة، إلى ساحة لاستعراض منجزات اليمين المتشدد لتحويل أوروبا إلى ما يشبه “قلعة مسيحية منغلقة”.
وزير داخلية إيطاليا السابق، ماتيو سالفيني، وزعيم حزب “ليغا نورد” (رابطة الشمال) اليميني المتشدد، وجد أنّ هذا المؤتمر أتى تعبيراً عن “أوروبا التي نريدها”. ولم يتردّد سالفيني في وصف حريّة الإجهاض على أنّها “جريمة إبادة جماعية”، على الرغم من تظاهر آلاف من مواطنيه إلى جانب أوروبيين آخرين حضروا خصيصاً لإبداء معارضتهم لما يناقشه المؤتمرون، خصوصاً أنّ ثمّة مشاركين في المؤتمر يمثّلون ليس فقط أقصى اليمين الأوروبي بل هم من الجماعات الدينية المتشددة. ومن بين هؤلاء من حضر خصّيصاً من روسياً حاملاً أفكاراً دينية راديكالية، على الأقلّ بالنسبة إلى الذين يحتجّون عليها في أوروبا.
في الشارع كذلك، وفي وجه المحتجين على المؤتمر، رفع أوروبيون آخرون لافتات تنادي بالعودة إلى القيم المسيحية في بناء العائلة، علماً أنّ مؤيّدي اليمين المتشدّد عبّروا عن معارضتهم الطلاق والمثلية الجنسية بشكل واضح. عن أيّ قيم أوروبية يدافع معسكر اليمين الشعبوي والمحافظون المتشددون في أوروبا؟ هؤلاء لا يترددون في استعادة خطابات مسيحية متشددة، معتبرين أنّ “قيم أوروبا المسيحية هي الأساس لإنشاء العائلة”. ويرى كثيرون أنّ التنازع الذي يشهده الشارع بين خطابات متشددة ضدّ الاتحاد الأوروبي وأخرى مؤيّدة لانفتاح القارة أتى متزامناً مع حملات انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في مايو/ أيار الماضي. ففي أكثر من مجتمع أوروبي، بات استدعاء شعارات القيم الأسرية المسيحية أساساً، حتى في الخطاب السياسي لليمين القومي المتشدّد. وينظر معسكرا الشعبويّين المتشددين والمسيحيين المحافظين إلى الاتحاد الأوروبي على أنّه “عدوّ مشترك”، معللين ذلك بأنّه “يفرض على الدول الوطنية قيماً ليبرالية متسامحة مع الأقليات الجنسية (كالمثليين بشكل رئيسي) والأقليات القومية (المهاجرين واللاجئين)، ما أدّى إلى “إغراق أوروبا بمهاجري الدول المسلمة”.
استدعاء القيم الدينية ترى فيه الباحثة من جامعة “إنسبروك” النمساوية، كريستينا ستوكل، محاولة لإقامة ما يشبه تحالفاً أوروبياً من أقطاب اليمين المتطرّف في المجتمعات الأوروبية بهدف تعزيز تعاونها ونفوذها في البرلمان الأوروبي مستقبلاً، وأتى التعبير عنه من خلال تقارب بين أحزاب من دول الشمال و”ليغا نورد” الإيطالي المتطرّف وحزب “البديل من أجل ألمانيا”. والباحثة القائمة على مشروع “مجلس البحوث الأوروبية” حول أدوار القوى الدينية وتأثيرها في السياسات الأوروبية، كانت قد صرّحت لصحيفة “إنفورماسيون” الدنماركية قبيل انتخابات البرلمان الأوروبي، بأنّه بخلاف السابق عندما لم يكن ثمّة ربط بين التشدد اليميني والقيم المسيحية “يبدو أنّنا نشهد تغيّرات في مجتمعات أوروبا الآن، فأحزاب اليمين المتشدد باتت تركز كثيراً على القيم المسيحية، الأمر الذي تعدّه ردّ فعل على هجرة المسلمين. وقد لاحظنا أخيراً لديها تبنّياً أكبر لتلك القيم في خطابها الموجّه إلى الجماهير ووسائل الإعلام”.
والهجرة ليست وحدها المحرّك لاستعادة الخطاب الديني لدى تلك القوى، بل كذلك القضايا المتعلقة بالجنس والجندر. وبناء على ذلك، كان من الممكن أنّ تمرّ النقاشات من دون أصداء في “المؤتمر العالمي للعائلات” في فيرونا، لولا تزامنها مع تصاعد حدّة الجدال حول قضايا حساسة طُرحت في سياق التحضير لانتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في مايو/ أيار الماضي بعد نحو شهر ونصف الشهر من انعقاد المؤتمر. يُذكر أنّ إحدى الجهات المنظمة والداعية إلى المؤتمر أساساً هي “المنظمة العالمية للعائلة”؛ وهي تيار أميركي محافظ معنيّ بجعل ما يسميه “الحفاظ على طبيعة الأسرة” جزءاً أساسياً من المشهد الأوروبي، الأمر الذي يتعارض مع القيم التي يستند إليها الاتحاد الأوروبي.
في “المؤتمر العالمي للعائلات”، كان الحضور الديني الأوروبي والأميركي والروسي طاغياً إلى جانب تيارات سياسية وناشطين حوّلوا المؤتمر إلى فسحة ساووا فيها ما بين الإرهاب والإجهاض والهولوكوست والمثلية الجنسية وعبادة الشيطان. وذهب بعض المتحدثين إلى مهاجمة ما سمّوه “النسويّة المتطرفة”، في حين رأى بعض آخر أنّ “المجتمعات المسيحية سوف تخسر معركتها مع الإسلام لأنّ الغرب يتسامح مع المثلية الجنسية”. واحتضان إيطاليا مؤتمراً عالمياً بهذا التشدّد رآه “المركز الجنوبي القانوني للفقر” في الولايات المتحدة الأميركية محاولة من قوى اليمين الديني الأميركي لتصدير فوبيا المثلية الجنسية والتمييز الجندري إلى العالم.
وبعد المؤتمر نفسه، بدا واضحاً استغلال اليمين المتشدد لمجرياته. وعلى سبيل المثال، ربط سالفيني قضايا الهجرة بـ”الحفاظ على الأسرة الأوروبية المسيحية”. وفي السياق، رأت ستوكل أنّ “الاندفاع نحو تبنّي الأحزاب السياسية المتطرفة خطاباً دينياً متشدداً وربط الحفاظ على الأسرة الأوروبية بالهجوم على الاتحاد الأوروبي باعتباره نادياً يفتح الأبواب أمام المهاجرين لجلب دعم كبير له، بالإضافة إلى الخطاب التخويفي من المثلية الجنسية والهجوم على سياسات الاتحاد الأوروبي القائلة بمنح الأقليات الدينية حقوقها كاملة، وبالأخص المسلمين، كلّ ذلك يعني أنّنا متجهون نحو ترسيخ الفكر المحافظ في أكثر من مجتمع أوروبي”.
العربي الجديد