الأكراد الخاسرون الدائمون في لعبة الأمم

الأكراد الخاسرون الدائمون في لعبة الأمم

يسلّط قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيال التوغل التركي في شرق الفرات، على متوالية تاريخية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى قضت بأن يكون الأكراد الخاسرين الدائمين في لعبة الأمم داخل الشرق الأوسط. بيد أن المصير الذي ينتظر وحدات الحماية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية بعد قتالها الطويل والمكلف ضد “تنظيم الدولة الإسلامية”، يبين أن “الحلف الإقليمي المقدس” ضد الأكراد يطمر من جديد الحلم الكردي ولو في حده الأدنى بإقامة إدارة ذاتية ضمن سوريا موحدة، وذلك بعد سنتين من إفشال استفتاء كردستان العراق.

هكذا يبدو أن واشنطن وموسكو تسلمان بغلبة الدول الإقليمية المؤثرة ويظهر جليا كسوف الدور الأوروبي في الشرق. يكرس هذا التخلي الدولي الدوامة الكردية لكنه لن يسمح باستقرار عالم عربي تتسابق إيران وتركيا وتتكاملان على مدّ مناطق نفوذهما فيه، بينما تكرس إسرائيل مكاسبها وتوسعها. وكل هذا ينذر لاحقا بمواجهات ومساومات على حساب المستقبل العربي والدول العربية وليس فقط على حساب الأكراد ضحايا الجغرافية السياسية بين الأتراك والإيرانيين والعرب.

بعد ثماني سنوات ونيف على اندلاع النزاع السوري، تدور مواجهات أو تصفيات الحروب السورية قبل الوصول إلى الوضع النهائي. وتحت غطاء مسار أستانة منذ نهاية العام 2016 أخذت تتكرس مناطق نفوذ الأمر الواقع وأبرزها المنطقة التي يسيطر عليها محور موسكو- طهران- دمشق، وبعدها منطقة شرق الفرات تحت سيطرة واشنطن وقوات سوريا الديمقراطية، وأخيرا المنطقة التي تسيطر عليها تركيا في نطاق عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. وتكمن وراء صراع الإرادات حول شرق الفرات ومطلب “المنطقة الآمنة”، استراتيجية تركية لتوسيع النفوذ نحو شمال سوريا (كما شمال العراق في محاكاة للنفوذ التاريخي في ولايتي حلب والموصل أيام العثمانيين) والمشاركة الأكثر فعالية في تقرير مصير سوريا.

أما الهاجس من الشريط الكردي الملاصق للحدود وإعادة اللاجئين السوريين فيمثلان تبريرا مقبولا عند الرأي العام التركي الذي أراد “السلطان الجديد” أردوغان إعادة شحنه بالشعور القومي بعد فشله في انتخابات إسطنبول والأزمة التي عصفت بحزب العدالة والتنمية.

وبالفعل كانت “المحنة السورية” الرافعة التي أتاحت لرجب طيب أردوغان تدعيم وضعه الداخلي وقيادة سياسة خارجية تمثلت باستدارة نحو روسيا من دون التخلي عن الانتماء الأطلسي والصلات مع أوروبا. ولهذا تأتي ما تسمى بعملية “نبع السلام” في سياق بازار السياسات الدولية وتدعيم موقع تركيا في ميزان القوى الإقليمي. ولذا تمثل عدم الرغبة في خسارة تركيا، التي تزداد فيها النزعة الشرقية والأورو- آسيوية، التفسير الواقعي لموقف واشنطن العملي في التخلي عن الورقة الكردية، وذلك بالإضافة إلى العامل الداخلي حيث يتركز همّ ترامب على تلبية وعوده الانتخابية بالانسحاب من الحروب التي لا نهاية لها كما سماها. وتوجد في الخلفية عدم وجود سياسة أميركية خارجية متماسكة في زمن ترامب والتوجه إلى نقص الاهتمام بالشرق الأوسط.

من هنا لا يعد الكلام الترامبي عن “الخطأ التاريخي بخصوص الانخراط في حروب الشرق الأوسط” تُلوّا لفعل الندامة من القوة العظمى أو وجهة نظر شخصية، بل تعبيرا عن إمكانية غلبة توجه الانكفاء الانعزالي في السياسة الخارجية الأميركية وبدء صفحة جديدة في العلاقات الدولية.

وهكذا تندمج مشاكل سيد البيت الأبيض المهيض الجناح بسبب محاولة عزله، تبعا لتحقيق معمق في ما سمي بـ”تحريض” ترامب نظيره الأوكراني في مكالمة هاتفية على التحقيق مع منافسه جو بايدن، مع قرار التخلي عن الأكراد الذي رفضه الحزبان الجمهوري والديمقراطي من خلال ممثليهما في مجلسي النواب والشيوخ.

وشمل الرفض إعطاء ترامب أمرا يقضي بسحب القوات العسكرية الأميركية من شمال شرق سوريا أو من بعضها تسهيلا للعملية التركية. وذلك في تنفيذ لقرار كان اتخذه في ديسمبر 2018 واضطر إلى إرجاء تنفيذه لرفض “الدولة العميقة له مثل الحزبين المذكورين. وكل ذلك يدلل على أن عرض ترامب الوساطة بين تركيا والأكراد ما هو إلا ذر للرماد في العيون خاصة بعد تصريح غريب عجيب لترامب أخذ فيه، تهكما أو جديا، على الأكراد عدم مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الأميركيين وخاصة في إنزال النورماندي بفرنسا.

والأهم في هذا الإطار لا تنحصر المشكلة في نهج ترامب وأساليبه والتواءاته مع الأكراد وغيرهم من الحلفاء من أوروبا إلى الشرق الأوسط، إنما يتعدى ذلك إلى تنازل سلفه باراك أوباما السياسي والأخلاقي في المسألة السورية منذ 2012 – 2013 وهذا ما يتم حصاده اليوم. وبالطبع لا يعني ذلك تقليلا من مسؤولية ما يسمى باقي المجتمع الدولي إزاء المأساة السورية، وخاصة روسيا مع الفيتو المتكرر في مجلس الأمن الدولي الذي منع إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري مما سمح بتفاقم الوضع. ولعبت موسكو دور ناظر التقاطعات في إدارة النزاع ومن هنا يمثل الضوء البرتقالي الذي منحه ترامب وبوتين بمثابة إجازة المرور لعملية أردوغان والطعنة النجلاء في ظهر الأكراد.

تذكر الوقائع الحالية بمراحل سابقة خاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية، إذ أنه بالرغم من رفع الرئيس الأميركي حينها توماس وودرو ولسون شعار حق تقرير المصير للشعوب ومن ضمنهم الأكراد ووعدهم بدولة خاصة بهم، لكن خلفاءه تغاضوا عن ذلك علما بأن الأكراد هم من بين القوميات أو الجماعات اللغوية الكبرى التي لا تزال من دون دولة تجمعهم على مستوى العالم، خاصة أنهم الأكبر من حيث تعداد السكان. وهم منتشرون ما بين تركيا، وسوريا، والعراق، وإيران، وأذربيجان، وأرمينيا، وجورجيا منذ أزمنة بعيدة. وما حصل مع رئيس أميركي شهير عاد وحصل مع رئيس سوفييتي شهير بعد الحرب العالمية الثانية حينما تخلى جوزيف ستالين عن “دوله مهاباد” مقابل حصة كبرى من النفط الإيراني.

خلال الحرب الباردة السابقة وفي سياق الصراعات الإقليمية عاد العامل الكردي إلى الميدان في السبعينات وكان الأكراد في العراق المحور لهذه “اليقظة” التي سرعان ما تخلى عنها السوفييت الحليف التاريخي لزعامة آل البارزاني، وفي تلك الحقبة أسهم هنري كيسنجر وزير نيكسون في الوصول إلى هذه النتيجة. تناسى الأكراد ذلك وربما أرغمتهم الظروف وقادتهم الطموحات وراء العمل من جديد مع الأميركيين في حقبتي أوباما وترامب، وها هو التاريخ يكرر نفسه ويسجل التخلي عن الذين حاربوا داعش باسم الآخرين ودفاعا عن الإنسانية.

العرب