من أجل شرح أحدث قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا، أصدر البيت الأبيض بياناً يوم الاثنين شدّد فيه على أنّ الولايات المتحدة هزمت “الخلافة الإقليمية” لتنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»). لكنّ هذا الأمر يخفي الحقيقة. ففي حين أُخرج “داعش” من آخر شبر من الأراضي التي كان يسيطر عليها في آذار/مارس، ثمة الكثير من المعلومات التي تشير إلى أن التنظيم لم يُهزم على الإطلاق.
لنأخذ في الاعتبار ما يلي: في آب/أغسطس، لاحظ المفتش العام الخاص بالمهمة العسكرية الأمريكية لدحر تنظيم «الدولة الإسلامية» أن التنظيم “نفّذ عمليات اغتيال وهجمات انتحارية وعمليات خطف وحرق محاصيل” وأنشأ “خلايا منبعثة من جديد في سوريا”. وفي الشهر الماضي، قال السفير جيم جيفري – المسؤول الأمريكي المكلف بقيادة المعركة الدبلوماسية لدحر تنظيم «الدولة الإسلامية»، إن التنظيم “لا يزال موجوداً ويساهم في انعدام الأمن ويتسبب بمشاكل في سوريا بطرق كثيرة مختلفة”.
والأكثر إثارة للقلق هو التحذير الذي حمله أحدث تقرير صادر عن “مجموعة دراسة سوريا”، وهي فرقة عمل مشتركة من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي مكلفة من الكونغرس بتقديم توصيات حول سياسة الولايات المتحدة في سوريا (وانطلاقاً من مبدأ الإفصاح الكامل، أنا الرئيسة المشاركة لهذه الفرقة). فقد حذر التقرير من المخاطر التي تهدد أمن الولايات المتحدة جراء سحب القوات الأمريكية السابق لأوانه، مشيراً إلى أن تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يزال يملك الوسائل والرغبة في “تنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة” وسوف يستغل “أي ثغرة” لتنفيذها وإعادة تعبئة صفوفه.
ونظراً إلى الأدلة الكثيرة على أن تنظيم «داعش» لا يزال يشكّل تهديداً مميتاً وعاجلاً، فمن الواضح أن المهمة العسكرية في سوريا لم تُستكمل بعد. وفي الواقع، إذا أصرّ ترامب على سحب القوات الأمريكية الآن قبل أن تكون الظروف على الأرض مستقرة بما فيه الكفاية، فسوف يفسح المجال أمام التنظيم ليعيد ترتيب صفوفه ويهدّد من جديد أمريكا وحلفائها في جميع أنحاء العالم.
يُذكر أن هذا السيناريو هو بالذات الذي وَضَع وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين في وضْعْ السيطرة على الأضرار في المرة الأخيرة التي أعلن فيها الرئيس الأمريكي أنه تمّ القضاء على هذا التنظيم الإرهابي في تغريدة نشرها على “تويتر” في كانون الأول/ديسمبر 2018. وأدّى ذلك إلى تعجيل استقالة وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس بسبب وجهات نظر متباينة حول أفضل طريقة لحماية المصالح الأمريكية.
ومنذ ذلك الحين، لم تستعِد الولايات المتحدة أبداً مكانتها بالكامل، لكن المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين كانوا يعملون من دون كلل لاستعادة الثقة الكافية في التزام الولايات المتحدة بمهمة الحفاظ على التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” بقيادة الولايات المتحدة ومواصلة القتال على الأرض.
إن العنصر المهم في هذا التحالف هو شريك الولايات المتحدة الذي يحارب تنظيم «الدولة الإسلامية» داخل سوريا – أي «قوات سوريا الديمقراطية» بقيادة الأكراد. وتضمّ هذه «القوات» عشرات الآلاف من المقاتلين الأكراد والعرب السوريين الذين دربتهم وسلحتهم الولايات المتحدة للقضاء على تنظيم «داعش».
وخلال السنوات القليلة الماضية، قدّم الجيش الأمريكي الدعم الجوي وعدداً محدوداً من القوات الأمريكية من أجل محاربة الجماعة الإرهابية داخل سوريا. وفي ظل تولي «قوات سوريا الديمقراطية» القيادة على الأرض واضطلاع الولايات المتحدة بدور مساند، أخرجت هذه «القوات» التنظيم من 20 ألف ميل مربع من الأراضي في سوريا – إلّا أن ذلك جاء على حساب آلاف الأرواح من عناصرها.
ويقوم ترامب بمكافأة «قوات سوريا الديمقراطية» على هذه التضحيات عبر سحب الدعم العسكري الأمريكي الذي يبقي هذه «القوات» وأسرها في مأمن من تهديدين وجوديين متساويين هما: ضربة عسكرية من تركيا، دولة مجاورة أكثر قوة ونفاذاً تعتبر الأكراد أعداءً لها؛ ونظام الأسد وداعماه، روسيا وإيران، اللذين يسيطرون على القسم المتبقي من سوريا ويهدفون إلى استعادة ثلث مساحة البلاد التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”.
ويجب أن يكون ترامب على دراية بما يبدو عليه الاستسلام للأسد وروسيا وإيران استناداً إلى عملياتهم الموثقة: هجمات بمواد كيميائية وقصف بالبراميل المتفجرة، وعمليات إخفاء قسرية وتعذيب، واستيلاء على الممتلكات، وتجويع.
وصحيح أن الجيش الأمريكي سحب بعض قواته خلال الشتاء الماضي، لكنّه أبقى ما يكفي منها داخل سوريا من أجل دعم «قوات سوريا الديمقراطية» في قتالها مع تنظيم «الدولة الإسلامية»، وحماية المجتمعات المحلية وحراسة ما يُقدّر بنحو 11 ألف محتجز من مقاتلي “داعش” و70 ألف من أفراد أسر أعضاء التنظيم المنتشرين في حوالي 30 مخيماً عبر شمال شرق سوريا.
والآن يرغب ترامب في تسليم المهمة العسكرية إلى تركيا. لكنّ أولوية أنقرة لا تتمثل في القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» كما أنها لا تتمتع بالقدرة على القيام بذلك. وبالنسبة للحكومة التركية، يتمثّل التهديد الرئيسي في سوريا بالمقاتلين الأكراد في صفوف «قوات سوريا الديمقراطية»، التي تعتبر أنقرة أنّها الجماعة الإرهابية الكردية نفسها التي مركزها في تركيا – أي «حزب العمال الكردستاني».
ومن أجل منع أي توغل عسكري تركي في عمق الأراضي السورية لمحاربة الأكراد، أجرى مسؤولون أمريكيون خلال الأشهر القليلة الماضية مفاوضات بشأن إقامة “منطقة آمنة” على طول الحدود التركية-السورية شمال شرق سوريا. وقد أتت تلك المفاوضات بثمارها، حيث يقوم الجيشان الأمريكي والتركي بدوريات مشتركة لضمان ابتعاد المقاتلين الأكراد السوريين وأسلحتهم الثقيلة عن الحدود التركية، في حين ركّزت «قوات سوريا الديمقراطية» – بعد أن طمأنت الولايات المتحدة أعضاءها حول سلامة أسرهم – على محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». ويُظهر ذلك القيادة الأمريكية في أفضل حالاتها: دبلوماسية مدعومة بأدوات عسكرية لمنع حدوث أسوأ السيناريوهات المتمثلة في منح تنظيم «داعش» فرصة إعادة ترتيب صفوفه واستعادة الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقاً.
لكنّ إعلان الرئيس الأمريكي يجعل السيناريو الأسوأ أكثر احتمالاً: وفاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتعهده بالانتقال إلى شمال سوريا، وتحوّل «قوات سوريا الديمقراطية» إلى التركيز على حماية أسر أعضائها من تركيا. وبدلاً من المخاطرة باندلاع أعمال عنف بين دولتين حليفتين في حلف “الناتو”، يقوم الجيش الأمريكي بتطهير المنطقة عندما تبدأ تركيا عملياتها العسكرية. وبتعبير آخر، تنتهي المهمة العسكرية لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا بالشكل الذي نعرفها فيه.
ويعني جزئياً تغيير «قوات سوريا الديمقراطية» أولوياتها بعيداً عن تنظيم «داعش» أنها ستقلّص حجم مهمتها لتقتصر على حراسة عشرات الآلاف من مقاتلي التنظيم المحتجزين وعائلاتهم، مما قد يدفع بـ «داعش» إلى التخطيط لعمليات هروب من السجن وإعادة تعبئة صفوفه. وذكر البيان الصادر عن البيت الأبيض يوم الاثنين أنّ حراسة هؤلاء المعتقلين أصبحت من مسؤولية تركيا، لكن لا يوجد ما يشير إلى أن تركيا قبلت هذا الدور.
وبعد أن احتفظ تنظيم «الدولة الإسلامية» بهيكليته القيادية ونفاذه إلى الموارد وجاذبيته العالمية، سيتمكن من إعادة بناء قواته والبدء بإطلاق هجمات لا تستهدف المجتمعات السورية فحسب، بل أهداف عبر الحدود في العراق أيضاً – حيث تنتشر أعداد أكبر بكثير من القوات الأمريكية – وكذلك التخطيط لهجمات في أوروبا والولايات المتحدة.
وسترى الولايات المتحدة من جديد أنّ أمنها مهدد بشكل مباشر. لكنّ هذه المرة، وعندما تتطلع إلى أصدقائها من أجل إعادة تشكيل تحالف عالمي لمكافحة الإرهاب، ستشكك الحكومات بمصداقيتها المتضررة أساساً. وبالنظر إلى سجلها الحافل بمفاجأة أصدقائها وبالتخلي عن شركائها، ستواجه الولايات المتحدة صعوبات في ضمان تأمين الالتزامات والمساهمات. وبالتالي، ينطبق عندئذٍ مبدأ أمريكا وحدها وليس أمريكا أولاً.
معهد واشنطن