هل نستطيع القول إن الأمور قد حُسمت في نهاية المطاف لصالح استقرار نسبي في العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا، بعد تغريدات متعارضة إلى حد التناقض من الرئيس الأميركي ترامب، وبعد الكشف عن رسالة، غير معهودة في الأعراف الدبلوماسية، كان قد أرسلها الأخير إلى الرئيس التركي، أردوغان، قبل الهجوم على المنطقة بين تل أبيض ورأس العين في شمال سورية، والتهديد باستمرارية الهجوم حتى الحدود العراقية؛ وبعمق يتجاوز حدود 30 كيلومتراً؟ ويفيد كل ذلك بأن الهدف المعلن كان السيطرة على جميع المدن والبلدات والقرى الكردية، الخاضعة حالياً لسلطة “الإدارة الذاتية” التي يتحكّم بها حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، والقوات العسكرية التابعة له، وتلك المتحالفة معه ضمن إطار ما تعرف باسمها قوات سورية الديمقراطية (قسد)، فالضغوط الجديدة التي تعرض لها الرئيس الأميركي بخصوص العملية التركية، والتي تجسّدت في الانتقادات الحادة جداً التي تعرّض لها من الكونغرس؛ وفي داخل الحزب الجمهوري نفسه؛ وضمن أركان الإدارة؛ ومن الأوروبيين حلفاء الولايات المتحدة؛ جاءت لتضاف إلى تلك القديمة المستمرة، منها الخاصة بالتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية؛ وقضية الاتصال بالرئيس الأوكراني، زيلينسكي، في سعي إلى إلحاق الضرر بشعبية مرشح الحزب الديمقراطي المحتمل أن يكون منافس ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في 2020، وذلك في
“الهدف المعلن للعملية كان السيطرة على جميع المدن والبلدات والقرى الكردية، الخاضعة حالياً لسلطة “الإدارة الذاتية””محاولة لتجاوز آثار الحملة التي تهدف إلى عزل الرئيس، الأمر الذي يلحق أفدح الخسائر بشعبيته، على الرغم من العناد الذي يظهره، ومحاولاته إظهار العكس.
وأمام الاتهامات الكثيرة التي وُجهت إليه، بخصوص إعطاء الضوء الأخضر للرئيس التركي، أردوغان، ببدء العمليات العسكرية، وقرار سحب القوات الأميركية من منطقة شرقي الفرات؛ لم يجد ترامب أمامه من سبيل سوى الدفاع عن نفسه، والتنصّل مما نُسب إليه، وبدأ يعتمد لغة متشددة تجاه تركيا، ويهدّد بعقوبات اقتصادية قاسية جداً. وجاءت العقوبات التي أقرّها الكونغرس ضد تركيا، لتمنح ترامب، على الرغم من الأزمة العاصفة بينهما، فرصةً للتلويح بمزيد من الضغط على الرئيس التركي أردوغان الذي يعاني، هو الآخر، من ضغوط داخلية شديدة، نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وتراجع قيمة صرف الليرة التركية؛ هذا بالإضافة إلى الخلافات داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، وتصاعد وتيرة الانتقاد ممن كانوا من أقرب المقرّبين إليه قبل الانشقاقات أخيرا داخل صفوف الحزب. كما أن الخلافات مع الحزب الجمهوري، على الرغم من الموقف الموحد المرحلي من موضوع التدخل في سورية تحت شعار الدفاع عن الأمن القومي التركي المهدّد، تعتبر من الهواجس المقلقة الضاغطة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية؛ فعلى المدى البعيد، خصوصا إذا نفذت الولايات المتحدة الأميركية تهديداتها بتطبيق مزيد من العقوبات الاقتصادية، فإن الخلافات ستشتد، ولن تنجح جهود أردوغان التي تقوم على المزج بين الأيديولوجيتين، الإسلاموية والقوموية، بغية شرعنة تدخله الراهن في منطقة شرقي الفرات؛ فمثل هذا الأمر ربما يساعده بعض الوقت، ولكن على المدى الأبعد سيعود كل طرف إلى حساباته واعتباراته، وستكون المؤشرات والموازين الانتخابية في مقدمة تلك الحسابات.
يبلغ التأزم ذروته داخل الإدارة الأميركية، وبينها وبين معارضيها الشرسين من الديمقراطيين، وتتصاعد وتيرة الهجوم التركي، الأمر الذي كان يهدّد بكارثة إنسانية كبرى يتعرّض لها السكان في مناطق العمليات، وغالبيتهم من الكرد بطبيعة الحال، وقد تعرّضوا أصلاً لعقود من الاضطهاد والإهمال والاستنزاف، نتيجة السياسة المستمرة التي اعتمدها النظام ضدهم، وهذا ما يضعف كثيراً قدرتهم على تحمّل أعباء الظروف الجديدة الناجمة عن تحول مناطقهم إلى ساحة للمعارك التي لا رأي لهم ولا مصلحة فيها. في ظل كل تلك التعقيدات، زار وفد أميركي لافت، برئاسة نائب الرئيس مايك بنس، أنقرة، والتقى مطولاً الرئيس التركي، الأمر الذي أعطى
“البنود الـ13 في الاتفاق تراوحت بين تأكيد أهمية التحالف بين أميركا وتركيا؛ وتفهّم مخاوف تركيا”انطباعاً حول وجود عرض أميركي، غايته إيجاد مخرج ما بغية تجاوز تعقيدات الموقف، وكان التوافق على وقف إطلاق النار في شمال شرقي سورية مدة 120 ساعة.
أما البنود الـ13 التي تضمنها الاتفاق الذي توصل إليه بنس في أنقرة، فقد تراوحت بين تأكيد أهمية التحالف بين الولايات المتحدة وتركيا؛ وتفهّم مخاوف تركيا؛ وضرورة العمل المشترك، والتزام كل من البلدين بحماية مناطق دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وسكانها من جميع التهديدات. وأكد البلدان التزامهما بدعم الحياة الإنسانية وحق الإنسان وحماية الجماعات الدينية والعرقية، هذا إلى جانب التزام الجانب التركي بضمان سلامة الناس ورفاهيتهم في جميع المراكز السكانية في المنطقة الآمنة. هذا إلى جانب الالتزام بوحدة سورية السياسة، ووحدة أراضيها؛ والالتزام بالعملية السياسة التي تقودها الأمم المتحدة التي تهدف إلى إنهاء النزاع السوري وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254. وينص أحد البنود على ضرورة انسحاب قوات حماية الشعب من المنطقة، الأمر الذي يقابله إنهاء عملية “نبع السلام”؛ وسيكون مقابل ذلك كله عدم تنفيذ الولايات المتحدة العقوبات الجديدة التي فرضت بموجب الأمر التنفيذي الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 2019؛ وبمجرد انتهاء العملية العسكرية التركية تُرفع العقوبات الأميركية الحالية.
واضح أن هذا الاتفاق جاء محاولة إنقاذية سريعة للوضع، ولقطع الطريق أمام الجهود الروسية التي أُعلن عنها في تصريحات مسؤولين روس عديدين تحدثوا عن استعداد روسيا للتوسط بين النظام و”قسد” من جهة، ومن ثم العمل على تحقيق نوع من التفاهم الأمني، وربما السياسي بين تركيا والنظام السوري، الأمر الذي كان من شأنه تفرّد روسيا بصورة شبه كاملة بالملف السوري، وهو الأمر الذي يوحي حتى الآن بأن المؤسسات الأميركية صاحبة الشأن غير متوافقة عليه، على الرغم من تغريدات ترامب الإشكالية. والسؤال هنا: هل سيؤدي هذا الاتفاق – البيان إلى عودة الثقة بين الحليفين المتخاصمين، الولايات المتحدة الأميركية وتركيا؟
“الاتفاق جاء لقطع الطريق أمام الجهود الروسية للتوسط بين النظام و”قسد””وبالتالي، هل سيتم التعامل مع القضايا الاستراتيجية ذات الصلة بالتوجهات الأساسية المستقبلية في المنطقة، ومعادلاتها التوازنية بعقلية استراتيجية، تتجاوز حدود ردود الأفعال، والحلول الجزئية الترقيعية؟ أم أن ما أُعلن عنه لم يكن سوى مجرد جهد إنقاذي إسعافي، علّق خطر الانفجار، من دون أن يلغيه، وأن الأمر برمته لم يتجاوز تخوم “صحوة ضمير” أميركية مؤقتة، لن تغير في ملامح المشهد كثيراً، وهي ملامحُ يُستشف منها تعاظم الدور الروسي في عملية تحديد مستقبل الحل السياسي في سورية؟
سؤال تتوقف طبيعة الإجابة عنه على تنفيذ الخطوات الخاصة بالاتفاق، وهي الخطوات المفروض أن يتم الانتهاء منها في الساعات القليلة الباقية التي تفصلنا عن نهاية المهلة المحددة. وتبقى خطوات أخرى هامة لم يتناولها نص الاتفاق، ولكنها ضرورية، ولا بد أن تكون محوراً للمناقشات والتفاهمات الأميركية – التركية؛ منها التي تتناول كيفية إدارة المنطقة، وهوية الجهة أو الجهات التي ستديرها، خصوصاً بعد أن أعلن الأميركيون عدم استعدادهم للمشاركة. وبأي شكل ستتم عملية ضبط الأمن في المنطقة المقترحة، ومدى صلة ذلك كله بالموضوع السوري العام الذي يظل الإطار السليم الطبيعي لمعالجة كل القضايا الجزئية؛ بموجب مشروع وطني سوري يكون بالجميع وللجميع، على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق، وإتاحة المجال على قدم المساواة بين الجميع للمشاركة في إدارة البلد، والاستفادة من موارده.
العربي الجديد