من العراق إلى لبنان.. استباحة إيرانية

من العراق إلى لبنان.. استباحة إيرانية

فيما يشهد العراق ولبنان موجة عارمة من الاحتجاجات الشعبية بصورة متزامنة، ما الذي يجمع بين البلدين، عدا الانتماء للمشرق العربي، واللغة القومية الواحدة، والريادة في مجال الثقافة والفنون؟ لقد بدا البلدان على تباعدٍ في تكوين النظام السياسي فيهما، إذ طغى الحكم العسكري على بلد الرافدين منذ العام 1958، فيما حافظ بلد الأرز على نظام طائفي تعدّدي، تزدهر فيه الحرية وتقِلّ الديمقراطية، على ما قال رئيس وزراء لبنان الأسبق سليم الحص، ويفتح أبوابه للاجئين السياسيين العرب. وكان البلدان، في أواسط الخمسينيات، قد جمعهما “حلف بغداد” إبّان الحكم الملكي في العراق ورئاسة كميل شمعون جمهورية لبنان. وعلى الرغم من أن لبنان لم يكن عضوا في هذا الحلف الذي جمع العراق وتركيا والولايات المتحدة وباكستان، إلا أن شمعون، اعتمادا على مبدأ إيزنهاور الذي ورث حلف بغداد، استعان بقوات أميركية في يوليو/ تموز من العام 1958، لمواجهة ما اعتبرها تهديداتٍ من الرئيس جمال عبدالناصر الذي أخذ على شمعون عدم قطع بلاده العلاقات مع دولتي العدوان الثلاثي: فرنسا وبريطانيا. وقد مكثت القوات الأميركية مائة يوم، ووجهت بموجة احتجاجات. وبينما تجدد النظام على مستوى رأس الهرم في لبنان بانتخاب فؤاد شهاب، وهو عسكري ذو ميولٍ عروبية معتدلة، وشهد بعدئذ حربا أهلية وإقليمية طويلة، دخل العراق في موجةٍ من الانقلابات، ومن صراعات القوميين البعثيين والناصريين من جهة، والقريبين من الحركة الشيوعية من جهة ثانية. كما دخل في حربٍ طويلةٍ مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وغزا دولة الكويت، وغزته أميركا، ثم تغلغلت إيران في كل مفاصله، بما في ذلك المراكز الحساسة من مستويات أمنية عليا إلى مراكز صنع القرار السياسي، وإلى درجةٍ باتت معها إيران ومليشياتها (أزيد من 60 مليشيا مسلحة) تعتبر أن الوجود الإيراني “طبيعي لا يمسّ بالسيادة والاستقلال”، مع تحذيرات إيرانية متكرّرة من أي تدخل أجنبي في هذا البلد، وباحتساب أن التدخل الإيراني في هذا البلد العربي عائلي!
وعلى الرغم من اختلاف التكوين الاجتماعي في البلدين، وبقاء النظامين في بيروت وبغداد على
“سعى حزب الله، متحالفاً مع التيار الوطني الحر ومع حركة أمل، إلى مصادرة الحياة السياسية”درجةٍ من الاختلاف، إلا أن ما جمع بينهما، خلال العقد ونصف العقد الماضي، هو غلبة المسألة الطائفية على الحكم، وتاليا على المجتمع في العراق في محاكاةٍ مشوّهةٍ للنموذج اللبناني، إذ أن التعدّدية الطائفية في لبنان ظلت تكفل قدرا من التوازن بين المكونات الاجتماعية، وذلك مع الاعتراف بنحو 16 طائفةٍ بعضها صغير العدد. أما في العراق، فعلى الرغم من التعدّد العرقي والديني: مسيحيون، مسلمون، أكراد، أرمن، صابئة، أزيدية، شبك، إلا أن الاستقطاب تمحور في مجتمع المسلمين بين سنّة وشيعة. وجرت عمليات تغليبٍ طائفي تحت عناوين مثل: استئصال “البعث” والبعثيين، ثم مكافحة الإرهاب و”داعش”. وتطور الحال إلى تشكيل مليشيات مسلحة لمكوّن طائفي واحد، وجرى تغذية هذه المليشيات من إيران مقابل فتح الأبواب على مصاريعها أمام الجار الكبير، لفرض نفوذه وهيمنته، فيما نظر إلى المكونات العرقية والدينية الأخرى نظرة دونية، بدعوتها إلى الالتحاق بالتركيب الجديد للنظام السياسي.
وبموازاة ذلك، كانت الحياة السياسية في لبنان تشهد بروز دور حزب الله الذي أنجز تحرير جنوب لبنان في العام 2000، بعد تنحية المقاومة الوطنية اللبنانية، ومنعها من أداء دورها، ثم شهد انسحاب القوات السورية عام 2005 إثر اغتيال رئيس الوزراء الذي كان نائبا في حينه، رفيق الحريري. وفي ضوء الحلف الذي نشأ بين دمشق وطهران، والذي أرسى لبناته الأولى الرئيس السابق حافظ الأسد، فقد أضيف حزب الله إلى هذا المحور. وقد عمل هذا الحزب على اتباع سياسةٍ مستقلة عن الدولة اللبنانية في الأمور السيادية، محتفظا، في الوقت نفسه، بالمشاركة في مجلسي الوزراء والنواب. وقد أدى تحالف الحزب مع التيار الوطني الحر بزعامة الرئيس الحالي، ميشال عون، إلى تحقيق اختراق في المجتمع المسيحي، وانتهى الأمر بتسيد هذا الحلف الحياة العامة، حين أصر حزب الله على تخيير اللبنانيين بين بقاء كرسي رئاسة الجمهورية فارغا بعد انتهاء فترة الرئيس السابق، ميشال سليمان، أو اختيار حليفه عون رئيسا للجمهورية، وهو ما حدث قبل ثلاثة أعوام.
ليس المقام هنا لسرد ما شهدته الحياة السياسية من تطورات في البلدين، ولكن المراد في ما سبق هو التأشير إلى مقدّماتٍ جعلت العراقيين واللبنانيين يتحدون حول الخروج من الطائفية واكتشاف الجوامع التي تجمع كل شعب. لقد احتفل العراقيون، كما اللبنانيون، باستعادة الوطنية الجامعة التي تضمهم، بعد أن استثمر زعماء الطوائف أيمّا استثمار في هذه الآفة، وعلى حساب فقر أبناء الطوائف. وقد بلغ الخيلاء وقصر النظر في زعماء الأمر الواقع في العراق تصوّرهم أن أبناء الشيعة باتوا مُلكا لهم، وقاطرة لتسيدهم واحتكارهم الحكم وتفتيت الدولة بين حشدٍ وجيش، وبين اقتصاد رسمي وآخر موازٍ تتولاه المليشيات، بغطاء من “الدولة”. ولكن مشاركة العراقيين من سائر الطوائف في الانتفاضة، ألجمت المراهنين على الخيار الطائفي، ودفعتهم إلى المشاركة في القمع الدموي للمنتفضين الشبان.
وفي لبنان، سعى حزب الله، متحالفا مع التيار الوطني الحر ومع حركة أمل، إلى مصادرة الحياة
“احتفل العراقيون، كما اللبنانيون، باستعادة الوطنية الجامعة التي تضمهم”السياسية وترهيب الفرقاء، وإلى ترك الناس يتدبّرون معيشتهم. هذا من دون إعفاء القوى السياسية الأخرى من تيار المستقبل والقوات اللبنانية وغيرهما من مسؤوليتها عن المشاركة والتواطؤ في تعميم حال الفساد والإفقار، وهو ما يعبّر عنه شعار الاحتجاجات “كلّن يعني كلّن” (كُلّهم، نعم، كلّهم).
على أن حزب الله اختار، من دون بقية الأحزاب والقوى، مهمة مناوأة الاحتجاجات ومقاومتها، ابتداء من خطابين لزعيمه حسن نصرالله خلال عشرة أيام، مروراً بوسائل إعلامه بما في ذلك الجيش الإلكتروني. وصولاً إلى تجريد حملاتٍ لأصحاب القمصان السوداء لترويع المحتجين وتهديدهم. فيما تبارى زعماء مليشيات في العراق بوصف احتجاجات الشبان بأنها من صنع أميركا وإسرائيل، وهي التهمة الفورية التي يطلقها محور الممانعة على كل معارض أو معترض. وقد انتهى الحال بالمرجع آية الله علي خامئني إلى نعت الاحتجاجات في البلدين بأعمال الشغب، وهو وصفٌ يكرر النعت الذي لطالما أطلقته قوى الاستعمار الغربي على الاحتجاجات في مستعمراتها خلال القرنين الماضيين.
وبينما يكافح اللبنانيون والعراقيون لتكريس هويتهم الوطنية الجامعة، والارتفاع عن الهوية الفرعية الطائفية، وبينما ينتفضون ضد الفساد والإفقار، فإن إيران وأذرعها المسلحة ينكرون عليهم ذلك، ويبذلون كل ما تملك يمينهم لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولحرمان الشعبين من حق إعادة بناء الدولة، وفق المعايير الوطنية والعصرية، وهو ما سعى إليه من قبل السوريون، فجرى إغراق حراكهم بالدم منذ اليوم الأول بمباركة إيران، ثم مشاركتها الكثيفة لاحقاً في وأد تطلعات السوريين.
شكراً لإيران الإمبراطورية على كل هذا الاستضعاف المُعلن، وعلى هذه الاستباحة المشهودة لشعوبٍ عربية.