ينتقدُ غالبيّة المؤرخين، خصوصاً بالمجتمعات العربيّة، اتفاق (سايكس بيكو) الذي وَضعَ أساس ورسم الخطوط الجغرافيّة للدول الوطنيّة العربيّة في المشرق العربي، على أساس المعادلة السياسيّة ومصالح فرنسا وبريطانيا عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان ذلك نقداً مبرراً وفي محله باعتبار أن حاضر ومستقبل شعوب دول المنطقة وُضِع من خارجها.
بعد بدايّة الصحوات العربيّة في نهايّة العقد الثاني من الألفيّة الحاليّة، وجدنا تيارَين متعارضَين للتقييم الراسخ لـ(سايكس بيكو)، وآراءً مختلفة حول كيفيّة التعامل معه. كثيرٌ من المحللين، خصوصاً في الغرب، يرون أن الدولة الوطنيّة ليست صيغة ملائمة للعالم العربي، خصوصاً بالمشرق الذي رسم وقسَّم دون مراعاة التوازن والتنوّع والتواصل العرقي والطائفي عبر حدود جغرافيّة وفقاً لذاك الاتفاق.
في حين يرى البعضُ الآخر، وأنا منهم، أن صيغة الدولة الوطنيّة بكل عيوبها وقصورها وبصرف النظر عن أن رسم صيغتها حينذاك كان بيد أجانب، يرى هؤلاء أن تلك الصيغة ما زالت هي أفضلُ المتاح، وأن محاولة إعادة رسم الخريطة الجغرافيّة لأوطان المنطقة تحملُ في طياتها مخاطر وتداعيات جمَّة، بما في ذلك هدم المعبد كله على مَنْ فيه.
وأعتقدُ أن المشكلة الحقيقيّة في تطبيق صيغة الدولة الوطنيّة ليست في المعادلة ذاتها، إنما في غياب التطبيق السليم لها، بما يستجيب إلى احتياجات المواطن، وتمكينه من المشاركة في رسم السياسات، بما يحقق له احترام خصوصياته العرقيّة، ودون أن يكون ذلك على حساب صيغة الدولة الوطنيّة، وطالما احترم الكل الولاء إلى الوطن.
يتطلب تحقيق ذلك توازناً دقيقاً ومستمراً ومتجدداً مع تغيّر الإطار السياسي العام والتوازنات الديموغرافيّة المختلفة واحتياجات طبقات وفئات مختلفة من المجتمع، وشهدت دولٌ عديدة تقلبات وتحديات غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، صناعيّة، وزراعيّة، متقدمة وناميّة، مَنْ يمارس اقتصاد السوق أو الاقتصاد الموجّه، والبعض ترنَّح بين أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، حتى في الدول الديموقراطيّة الأوروبيّة بين التيارات اليساريّة الاشتراكيّة في النصف الآخر من الألفيّة الماضيّة، والتيارات اليمينيّة في السنوات العشر الماضيّة، وحتى في دول عظمى بانتخاب رؤساء غير تقليديين، مثل ترمب في الولايات المتحدة أقوى وأغنى دولة بالعالم، وتفكك دول عظمى مثل الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقيّة كلياً. ونشهد الآن تظاهرات منتشرة في دول العالم وقاراتها، آخرها في شيلي وهونغ كونغ الآن، وطبعاً توجد الاضطرابات التي شهدناها بالعالم العربي، وآخرها في لبنان والعراق.
والامتحانُ اللبنانيُّ فريدٌ في حجمه وجوهره وشفافيته، فالدولة اللبنانيّة صغيرة، وأقيمت ونمت كدولة وطنيّة على أساس تقسيم عرقي ومحصصات رسميّة، وهي تجربة فريدة نجحت، وتمت المحافظة عليها طويلاً، ومع تعرُّض البلاد إلى صدمات عنيفة وحروب داخليّة كل عقدين من الزمن على الأقل تغيَّرت التركيبة الجغرافيّة من التوازن الأمني أو الاقتصادي إلى الطوائف اللبنانيّة، وحتى بين الحين والآخر بين عائلات الطائفة الواحدة، وكان آخر محطات ضبط الإيقاع وتثبيت الاستقرار (اتفاق الطائف) برعايّة السعوديّة.
أمَّا الآن، فاضَ الكيلُ بالشعب اللبناني لأسباب كثيرة، بعضها اقتصاديٌّ وبعضها اجتماعيٌّ وبعضها سياسيٌّ، والكل مشحون، ونشهد رفضاً شعبيّاً ومجتمعيّاً لممارسة الريادة السياسيّة، والمتهمة بترجيح المصلحة الطائفيّة والشخصيّة على مصلحة البلاد، والمشاركة أو عدم التصدي في سُبل متعددة للفساد السياسي والاقتصادي.
ومِنْ المُلفت والجديد والمُستحب والمُستحسن، أن الشارع اللبناني الغاضب والرافض أوضاعه لم ينقسم على أساس فئوي أو طائفي، وعبَّر عن مواقفه في أغلب الأحيان تحت علم واحد، وهو علم الدولة الوطنيّة اللبنانيّة، ولم تشمل طلباته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المختلفة التمسُّك أو الدفاع عن حقوق أو مكاسب طائفيّة، إنما اقتصرت على ما يرتبط بحقوقهم وتطلعاتهم كمواطنين لبنانيين.
أي أن لبنان، الدولة العربيّة الشقيقة والصغيرة، وعلى مستوى مواطنيها مع تنوّعهم، ترى أن جزءاً كبيراً من حل مشكلاتها هو تغيُّر نظامها السياسي كلياً، وتفضيل صيغة الدولة الوطنيّة على أي صيغة المحاصصة الطائفيّة.
ومن ثمَّ نجد لبنان الشقيق وشعبه الكريم رغم صغر حجمه ووجود ضعف سكانه خارج البلاد، أخذ على عاتقه قضيتين مهمتين في العالم العربي، قضيّة التمسُّك بالحكم الرشيد بمختلف جوانبه، وتحدي التمسُّك الكامل بالدولة الوطنيّة على حساب أي تقسيمات فئويّة أو طائفيّة أخرى. طموحات ضخمة وكبيرة سيكون لفشلها أو نجاحها أثرٌ بالغٌ ومهمٌ، ليس فقط على لبنان أو التوازن الجيوبولتيكي في المشرق والخليج في ظل سياسات إيران، إنما كذلك على تحديد الإجابة عن السؤال الوجودي والمهم الذي يفرض نفسه على العالم العربي، ألا وهو: هل صيغة الدولة الوطنيّة ملائمة للعالم العربي أم لا؟
وفي هذا أضع صوتي وبقوة في صالح الدولة الوطنيّة، مؤمناً بأن استقرار الأوضاع، ورسم مستقبل أفضل للمنطقة ليس الاختيار بين الدولة الوطنيّة والفئويّة العرقيّة، إنما في توفير وتأمين الحكم الرشيد الذي يستجيب إلى احتياجات المواطن، وطموحه اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، وأعود إلى هذا الموضوع لاحقاً.