لم يكن لبنان والعراق متماثلين فقط في الاحتجاجات التي ترددت أصداؤها في مختلف أرجاء الدولتين، ولا في المطالب التي حملها المتظاهرون بإسقاط النظام والتغيير الشامل، ولا في محاولات إيران وحلفاؤها إفشال الحراك الشعبي في البلدين باستخدام العنف والنار، وإنما تشابها أيضاً في الواقع السياسي والطائفي وفي الظروف الاقتصادية الصعبة من بطالة وفساد ومحسوبية، غير أن النتائج قد تتباين في نهاية المطاف بحسب تحرك الأحداث وقوة وسرعة اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين وفقاً لما يرصده باحثون وصحافيون في الولايات المتحدة الأميركية.
فعلى الرغم من أن الاحتجاجات الشعبية العارمة تمكنت من إسقاط حكومتي العراق ولبنان خلال ثلاثة أيام بعد أسابيع من التظاهر المتواصل، ما أشعل بعض الأمل في النفوس من إمكانية إحداث التغيير المنشود، إلا أن النتائج الأخيرة لهذا الحراك الشعبي غير المسبوق في البلدين قد يتشابه وقد يختلف، نظراً لأن الطريق مازال طويلاً وصعباً وعوامل التأثير فيه كثيرة ومُعقدة.
هل من تغيير؟
وفي حين لا يبدو النظام السياسي أوتوقراطياً، فإن المتظاهرين احتجوا من أن حكامهم المنتخبين ديمقراطياً، فاسدون يتحصنون بنظام طائفي معقد لاقتسام السلطة. وعلى الرغم من نجاح المحتجين في إجبار الحكومتين العراقية واللبنانية على إعلان استقالتهما، إلا أن مهمة تغيير النظام السياسي لا تزال عملياً طويلة وصعبة، والدليل على ذلك أن رئيس الوزراء اللبناني المُستقيل سعد الحريري، بدا بعد يوم واحد من استقالته، الشخص المُفضل لتولي المنصب نفسه، كما أن عادل عبد المهدي رئيس الوزراء العراقي الذي أعلن استقالته أيضاً، بدا أنه سيستقر في الحكم من دون تغيير وفقاً لما نقلته وكالة رويترز التي أشارت إلى أن إيران تدخلت خلال اليومين الماضيين وضغطت على الأحزاب الشيعية لتجبر عبد المهدي على الاستمرار، وهو ما يعكس إلى أي مدى تتدخل إيران بعيداً من الأضواء.
مع ذلك، فإن تجميد استقالة عبد المهدي قد لا تعني التخلي عن مقاومة الفساد المستشري في البلاد أو إعادة تشكيل الحكومة أو تقديم تنازلات من قوات الحشد الشعبي، فالخيارات تظل مفتوحة على وقع التظاهرات في الشارع ومدى قدرة السلطات على احتوائها.
وبحسب موقع شبكة “سي إن إن” الأميركية ، فإن استقالة الحريري قد تصبح نقطة تحول وربما تقود إلى تنازلات سياسية لإنقاذ لبنان من التدهور والانهيار، ذلك أن الرئيس اللبناني ميشيل عون وصف النظام الطائفي بالمرض وتعهد بإصلاح سياسي جذري، كما أن حزب الله قد يتراجع عن دوره السياسي البارز في محاولة للاحتفاظ بسلاحه وعتاده العسكري، وبخاصة أن حسن نصر الله أمين عام حزب الله خفف من معارضته للاحتجاجات في خطاب دعا فيه الحكومة الجديدة إلى أن تكون شفافة وأن تُلبي مطالب المحتجين.
وفقاً لتقرير نشرته شبكة “إن بي سي” الأميركية، فإن تظاهرات لبنان تزامنت مع أزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ الحرب الأهلية 1975- 1990، وإذا كانت استقالة الحريري ستتسبب في إطالة العجز السياسي في البلاد، فإنها سوف تُعرّض للخطر آفاق الإنقاذ المحتملة من الحكومات الغربية ودول الخليج.
النظام السياسي… أكبر العقبات
على خلاف الدول العربية الأخرى، يتشابه العراق ولبنان في النظام السياسي الذي نادراً ما يؤدي التغيير الحكومي داخله إلى تغيير في السياسات، فبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وخلع نظام حكم صدام حسين، تأسس نظام حكم طائفي يُشبه إلى حد بعيد النظام الطائفي الذي فُرض على لبنان إبان العصر الاستعماري، والذي يُقسم السلطة بين الطوائف الرئيسية في المجتمع، وهو النظام ذاته الذي يرفضه المحتجون في كل من البلدين ويرونه السبب الأساس لانتشار وباء المحسوبية والفساد.
ويرى مراقبون في العاصمة الأميركية أن نظام الحكم في العراق ولبنان، صُمِم لإنهاء الصراع الطائفي عبر ضمان مشاركة السلطة بين أحزاب تمثل الطوائف المختلفة، إلا أن الجماعات الشيعية في كل من البلدين، ترتبط بإيران وتمسكت بالاستحواذ على السلاح خارج إطار قوات الأمن الرسمية التابعة للدولة وهو ما يُعد عقبة كبيرة أمام أي محاولة لتغيير المعادلة.
وتشير صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية إلى أن أصل المشكلة هو تجزئة النظام السياسي في العراق بين الطوائف، فضلاً عن أن عمليات الخصخصة استفاد منها قادة سياسيون وزعماء عشائر وتركزت عوائد النفط في يد نخبة فاسدة أتت من رحم التقسيم الطائفي على حساب المواطنين العاديين الذين قاطع معظمهم انتخابات العام الماضي.
العامل الإيراني
استشعرت إيران بقلق بالغ التطورات في كل من العراق ولبنان، وقررت التدخل سريعاً بعدما أيقنت أن جهودها الحثيثة التي تواصلت لسنوات بهدف تكريس نفوذها في هذين البلدين العربيين أصبحت في مهب الريح.
ويقول “نيل كويليان” الباحث في الشؤون الدولية، إن إيران عملت على دعم النظام الداخلي الذي يحاول المتظاهرون وضع نهاية له، ولهذا تعتبر أن المحتجين يتحدون النظام السياسي القائم حالياً والذي يتكون في جزء مهم منه من جماعات تدين بالولاء لإيران بل وترتكز عليها في تنفيذ سياساتها، ولهذا فإن طهران سوف تخسر الكثير إذا خرج حلفاؤها من السلطة أو تقلص نفوذهم مثل حزب الله في لبنان وقوات الحشد الشعبي في العراق.
ففي العراق حَلّ حلفاء إيران الشيعة محل النظام البعثي بعد الإطاحة بصدام حسين وأصبح هؤلاء في السلطة الآن، وهم سبب غضب المحتجين الذين يتهمون الجماعات الشيعية المدعومة من إيران بتشييد إمبراطوريات اقتصادية بينما يرزح كثير من العراقيين في البطالة والفقر.
ويعتبر “سكوت بيترسن” في مقال بموقع صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” الأميركية أن ما أفزع الإيرانيين أن معظم المحتجين في العراق ينتسبون إلى الأغلبية الشيعية في المجتمع، وهم يطالبون بإسقاط النظام الذي يسيطر عليه الشيعة، في حين أن من يحمي النظام من السقوط هم أيضاً ميليشيات شيعية.
اقرأ المزيد
مدينة لبنانية من رهينة التطرف إلى قبلة التظاهرات
احتجاجات بغداد وبيروت… ودور حلفاء إيران بالوكالة
وفي لبنان، يسيطر على الحكومة فصائل متحالفة مع حزب الله الذي يسيطر على الضاحية الجنوبية لبيروت، لكن حزب الله وحركة أمل الشيعية لم يسلما من سخط المحتجين حتى في قلب المناطق التي يسيطرون عليها في الجنوب.
لكن العامل الإيراني في لبنان قد يكون أقل نفوذاً منه في العراق، فقد تبين أن أسلوب التخويف الذي اتبعه مؤيدو حزب الله ضد المحتجين عبر حرق خيامهم ومحاولة تفريق تجمعاتهم قد فشل، ما عكس حسابات حزب الله الخاطئة.
وبحسب مراقبين، يهدد غياب وجود بديل واضح للحريري، بمأزق صعب لحزب الله الذي تعرض لعقوبات شديدة من الولايات المتحدة مؤخراً، فعلى الرغم من أن حزب الله وحلفاءه يسيطرون على الأغلبية داخل البرلمان، إلا أنهم لا يستطيعون تشكيل حكومة، لأنهم سيواجهون بعزلة دولية تعد الأسرع لتحقيق انهيار مالي في لبنان.
العامل الأميركي
بينما حمّلت إيران الغرب والولايات المتحدة مسؤولية إثارة الاضطرابات في العراق ولبنان، فقد ظل رد الفعل في واشنطن هادئاً إلى حد بعيد انتظاراً على ما يبدو لنتيجة هذه الاحتجاجات قبل أن يمارس وزير الخاجية الأميركي مايك بومبيو ضغوطاً محدودة على العراق معتبراً أن إجراءات الحكومة العراقية ضد المحتجين لا تتمتع بصدقية وأن الشعب العراقي يستحق العدالة.
ويقول أنطوني باف أستاذ الإستراتيجية في كلية الحرب الأميركية، أن إحداث إصلاح في العراق سيتطلب دعم المجتمع الدولي، لكنه أوضح أن على الولايات المتحدة الحذر باعتبار أن العراقيين لم يسأموا فقط من إيران، وإنما سئموا أيضاً من أي تدخل خارجي، ولهذا قد يزيد أي تدخل أميركي الوضع سوءاً.
ومع ذلك فإن الولايات المتحدة- بحسب باف- يمكنها تقديم المساعدة حين يكون لديها التأثير القوي أي تقديم حلول اقتصادية للعراق عبر تحديد شروط وظروف الاستثمارات الأجنبية الأميركية والغربية فضلاً عن تقديم الخبرة والدعم لعملية الإصلاح.
أما في لبنان الذي يحتاج تمويلاً لإبقاء الاقتصاد على قيد الحياة، فقد استخدمت الولايات المتحدة والغرب، نفوذهم المالي لتحدي التأثير الإيراني بشكل مباشر، حيث فشل الحريري قبيل استقالته في إقناع الغرب بالإفراج عن 11 مليار دولار كانوا قد تعهدوا بها للبنان العام الماضي وتوقفت بسبب سلوك حزب الله اللبناني.
وامتنعت دول خليجية عن مساعدة لبنان منذ 3 سنوات بسبب نفوذ حزب الله في الدولة اللبنانية. أيضاً علق الرئيس ترمب مساعدات أمنية للبنان بقيمة 105 ملايين دولار عقب استقالة الحريري.