عزّزت روسيا في السنوات الأخيرة تموقعها في القارة الأفريقية، حيث لم تدخر موسكو، مؤخرا، أي جهد لإنفاق مبلغ سبعين مليون دولار لاستضافة القمة الروسية–الأفريقية لتضع موطئ قدم في القارة السمراء، وذلك بالرهان على الحروب التجارية التي تخوضها واشنطن ضد بكين، والتي مثلّت فرصة ذهبية للدب الروسي كي يتسلل ويخترق العمق الأفريقي.
تونس – أنفقت روسيا مبلغ سبعين مليون دولار لاستضافة القمة الروسية-الأفريقية، التي انعقدت مؤخرا في منتجع سوتشي المطل على البحر الأسود، شارك فيها 34 زعيما أفريقيا.
ورغم أن القمة عقدت على مدى يومين فقط، إلا أن البرنامج كان حافلا، حيث شهدت تنظيم 35 فعالية رسمية و1500 اجتماع، وتم خلالها توقيع اتفاقيات مختلفة بين روسيا والدول الأفريقية بقيمة 12.5 مليار دولار، مبلغ يكفي لتبرير ما أنفقه الكرملين لتنظيم القمة، ويسكت الأصوات المعارضة التي رأت فيها “تبذيرا لأموال الشعب”.
وفي حوار قبل القمة، وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العلاقات الروسية-الأفريقية بالمزدهرة، وتحدث عن تقديم خدمات الدعم السياسي والدبلوماسي، وعن المساعدة الأمنية والدفاعية والمساعدات الاقتصادية وخبرات التحكم في الأمراض والمساعدات الإنسانية والتدريبات التعليمية والحرفية.
وشهد عام 2018 ست زيارات لقادة أفارقة، عززت روسيا من خلالها صلاتها السياسية في المنطقة.
الطموح الروسي أثار مخاوف القوى الغربية من استيلاء موسكو على نفوذهم. وكان جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، قد أعلن العام الماضي عن خطة أميركية جديدة في أفريقيا، تهدف بشكل أساسي لمحاربة نفوذ روسيا والصين.
مخاوف بولتون لم تلق صدى لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لا يرى مانعا في ترك موطئ قدم للدب الروسي داخل “الكرم” الأفريقي، ما دام ذلك سيؤدي إلى إزعاج الصين التي دخل معها حربا تجارية مفتوحة.
النشاط الروسي لم يقتصر على المجال العسكري، بل رافقه نمو ملحوظ بالمعاملات التجارية وفي حجم الاستثمارات خلال السنوات العشر الماضية. وتهدف روسيا، من خلال فتح أسواق جديدة للسلاح والطاقة والمنتجات الزراعية، إلى مضاعفة حجم التبادل التجاري مع أفريقيا، البالغ حاليا 20 مليار دولار، وهو رقم ضئيل مقارنة بحجم التبادل بين الصين وأفريقيا، الذي تجاوز 200 مليار دولار.
وفي مقاربة، وصفت بالبراغماتية، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشطب ديون بقيمة 20 مليار دولار، مستحقة على الدول الأفريقية، تعود إلى الحقبة السوفييتية. وتهدف المبادرة إلى فتح مجالات جديدة أمام الشركات الروسية، خاصة وأن بوتين يعلم أن هذه المستحقات تعتبر معدومة لا يمكن استردادها.
الحرب التجارية، التي يشنها الرئيس الأميركي على الصين، شكلت فرصة ذهبية سانحة لتسلل الدب الروسي إلى “الكرم” الأفريقي، فهل سيتمكن ترامب من إخراجه
تاريخيا، كانت العلاقات بين الكتلة الشيوعية والدول الأفريقية، زمن الاتحاد السوفييتي، متينة جدا، سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي أو التعليمي، لتشهد تراجعا، وصل إلى حد القطيعة، في أوائل التسعينات، مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الشرقية.
وكانت روسيا قد اعترفت على لسان رئيس وزرائها، ديمتري ميدفيديف، أن موسكو أهملت القارة الأفريقية لفترة طويلة جدا، استأنف بعدها الكرملين تعزيز علاقاته مع الحكومات الأفريقية.
وشكل انضمام جنوب أفريقيا عام 2010 إلى ما يعرف بمجموعة البريكس، بداية دخول روسيا سباق تنافس مع الصين في القارة الأفريقية. وشهدت المبادلات التجارية بين روسيا وبين الدول الأفريقية نموا تجاوز نسبة 25 بالمئة، عام 2017، كان من ضمنها توقيع اتفاقات تعاون نووي مع 16 دولة.
ويأتي في مقدمة اهتمامات روسيا في أفريقيا، إنتاج المواد الخام والطاقة، والأبحاث الجيولوجية، إضافة إلى مشاريع البنية التحتية. وتحظى شركات البترول والغاز الطبيعي الروسية، وعلى رأسها غازبروم، بأكبر نصيب من الاستثمارات هناك.
كما تقوم هيئات تابعة لمؤسسة الطاقة الذرية الروسية، روس آتوم، بمشاريع استخراج اليورانيوم في بوتسوانا وناميبيا وتنزانيا. وتشارك شركات تعدين وحديد وصلب روسية، مثل روسال، في مشاريع استخراج الذهب والحديد والفاناديوم والمجوهرات في غينيا.
وتمكنت روسيا من احتلال مكانة مهمة في مناطق مختلفة بالقارة الأفريقية، عن طريق التكنولوجيا النووية، حيث أنشأت محطات للطاقة النووية، ووقعت اتفاقيات تنتظر التنفيذ في عدة دول هي، السودان، زامبيا، إثيوبيا، مصر، رواندا، ونيجيريا. وتعتبر منطقة غرب أفريقيا من أكثر المناطق التي توليها الشركات الروسية اهتماما خاصا.
وروسيا، التي تحتل المرتبة الثانية عالميا في تصدير السلاح، هي أكبر مورد سلاح للقارة الأفريقية. وشهد عام 2017 تضاعف حجم صادرات السلاح الروسية إلى الدول الأفريقية بالمقارنة مع عام 2012؛ صدرت وحدها 39 بالمئة من إجمالي واردات أفريقيا من السلاح.
ووفقا لتقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، وردت روسيا إلى الدول الأفريقية، في الفترة ما بين 2015 و2017، معدات عسكرية مستعملة تضم مروحيات عسكرية ونقل، وطائرات، وأنظمة صواريخ مضادة للطائرات.
وعلى هامش القمة التي عقدت في سوتشي، وقعت نيجيريا مع روسيا اتفاقية لشراء 12 مروحية حربية. وكانت الكاميرون وجنوب أفريقيا وإريتريا من الدول التي أبدت رغبتها في شراء طائرات ودبابات وأسلحة ثقيلة من روسيا.
وقبل فترة وجيزة، وقعت جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تعاني منذ سنوات من الحرب الأهلية، اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا، يتواجد بموجبها مستشارون عسكريون روس بصفة رسمية في العاصمة بانغي.
وتمتد العلاقات الأمنية والعسكرية الروسية لأكثر من مبيعات السلاح، وأحيانا تتضمن استخدام مجموعات المرتزقة الخاصة، حيث ينشط الدور الروسي في جمهورية أفريقيا الوسطى، إذ تدعم الحكومة المعترف بها لدى الأمم المتحدة ضد المجموعات المتمردة. وتشارك قوات روسية خاصة في تأمين الحكومة وتأمين الموارد الاقتصادية الهامة.
وغالبا ما تمول هذه الشركات نفسها من خلال أعمالها في حراسة الموارد الهامة، وفي نفس الوقت تتيح لروسيا فرصة فرض نفوذها الأمني والسياسي دون تكلفة تذكر، وبأقل قدر من المخاطرة.
وبخلاف شركات الصناعة الدفاعية، اتجهت أنظار الكثير من الشركات الروسية إلى القارة الأفريقية التي تضم دولا من بين أسرع الاقتصاديات نموا في العالم. وحسب بيانات لصندوق النقد الدولي، حققت دولا أفريقية أعلى نسب نمو على مستوى العالم، حيث شهدت أسرع خمس دول نموا في قارة أفريقيا عام 2018، نموا تجاوز 7 بالمئة، وهي، إثيوبيا، ساحل العاج، رواندا، السنغال، وغانا.
ورغم تجنب الرئيس بوتين الاجتماع برئيس المجلس الرئاسي الليبي، فايز السراج، خلال تواجده في قمة سوتشي، إلا أن هذا الأخير حاول التقرب من موسكو، مذكرا بوجود اتفاق موسع بين ليبيا وروسيا منذ العام 2008، قال إن حكومته تعمل على مراجعته.
وكانت روسيا قد شطبت ديونا ليبية بقيمة 4.5 مليار دولار، تعود إلى الحقبة السوفييتية. وقال الرئيس بوتين إن اتفاق شطب ديون سيؤدي إلى عقود عمل شركات دفاع روسية، لافتا إلى أن الاتفاق يشمل أيضا مشروعات مدنية في مجال البنية التحتية.
ورغم توقيع موسكو 19 اتفاقا في إطار التعاون العسكري مع دول أفريقية، ما زال وجودها في القارة الأفريقية لا يرقى إلى المستوى الذي حققه منافسوها الجيوسياسيون.
وبينما يرى البعض في الاستثمارات التجارية الروسية محاولة من موسكو لتقوية نفوذها العسكري بالمنطقة، يقدم آخرون قراءة مختلفة، فروسيا، حسب هؤلاء، اتخذت من التعاون العسكري ثغرة وفرصة لتنفيذ استراتيجيتها التجارية، رغم أن العودة إلى القارة الأفريقية لن تكون سياحة سهلة، في ظل وجود منافسين أقوياء.
الحرب التجارية، التي يشنها الرئيس الأميركي على الصين، شكلت فرصة ذهبية للتسلل الروسي إلى “الكرم” الأفريقي. والسؤال، هل سيتمكن ترامب، هذا إن كان موجودا في البيت الأبيض حينها، من إخراجه؟ كل المؤشرات تشير إلى استحالة ذلك. الدب الروسي قرر البقاء في أفريقيا، وهذا ما سيكون.
العرب