لماذا تخشى إيران استمرار حناجر المتظاهرين في العراق؟

لماذا تخشى إيران استمرار حناجر المتظاهرين في العراق؟

قاسم سليماني، قائد قوة القدس في حرس الثورة الإيراني، يبدو أنه الشخص الأكثر قلقاً في الجمهورية الإسلامية. هذا الضابط المخضرم والمسؤول عن التخطيط والتنفيذ والإشراف على النفوذ والتمركز الإيراني في الخارج، يواجه الآن أحد التحديات الصعبة في حياته. هناك بؤرتا اشتعال في لبنان والعراق تهددان بتحطيم استثمار إيران الضخم بالأموال والمعرفة والقوة البشرية في هاتين الدولتين خلال عشرات السنين. وتهددان أيضاً بتقويض وإضعاف، إذا لم نقل تحطيم، أسس نفوذها.
في العراق بالذات، الذي تسيطر عليه أغلبية شيعية ويديره تحالف مؤيد لإيران، يمكن أن يحدث الانفجار الأكثر خطورة، وإذا لم يتم كبحه بسرعة فسيهز قاعدة السيطرة المهمة لإيران في الشرق الأوسط. مقابل لبنان الذي ليس له أهمية استراتيجية استثنائية بالنسبة لطهران، فإن العراق الذي بلغ حجم تجارته مع إيران 12 مليار دولار سنوياً، هو مهم بالنسبة لها كمسار لتجاوز العقوبات الأمريكية. وهو في الأساس يعتبر معقلاً جغرافياً وسياسياً يمكّن إيران من كبح نفوذ السعودية في الشرق الأوسط، وترسيخ مكانتها كدولة عظمى إقليمية وتطبيق المهمة الأيديولوجية لزعيم الثورة الإسلامية آية الله الخميني الذي سعى إلى تصدير الثورة إلى الدول الإسلامية.
أما في لبنان فتستند إيران إلى قوة حزب الله، لكنها تعتمد على خدمات سوريا “التي تم احتلالها” سياسياً وعسكرياً من قبل روسيا من أجل إبقاء قاعدتها في بيروت. وفي المقابل العراق هو الحليف، والوصول إليه يكون مباشراً وتاماً، إلا أن ما يظهر بأنه أخوة شيعية وتحالف مصالح اقتصادية وسياسية بين إيران والعراق هو أكثر تعقيداً مما اعتيد على وصفه في الغرب وإسرائيل كـ “الهلال الشيعي”. العراق دولة طائفية: أكثر من ثلثي المواطنين هم من الشيعة، وأقل من الثلث من السنة والباقي أكراد وتركمان وأبناء طوائف أخرى. معظم القوة السياسية فعلياً هي للأحزاب الشيعية، لكنها غير متشابهة، خاصة في كل ما يتعلق بالسياسة تجاه إيران.
الـ 329 عضواً من أعضاء البرلمان العراقي الذين جرى انتخابهم في العام 2018 يمثلون نحو 45 حزباً، التي تتجمع في مجموعات وكتل، لكل واحدة منها أجندتها السياسية والدينية والسياساتية الخاصة بها. ولعدد من هذه المجموعات ثمة مليشيات خاصة ومصادر دخل خاصة بها، إضافة إلى الشريحة التي تحصل عليها من ميزانية الدولة وفقاً للوزارات التي حصلت عليها.
هذا الانقسام وهذا العداء بعد خمسة أشهر على الانتخابات في السنة الماضية، أديا إلى نجاح الكتل في الاتفاق على تعيين عادل عبد المهدي رئيساً للحكومة. طريقة الانتخابات التي تعتمد على الأسلوب النسبي تمنح القوة للأحزاب الكبيرة وتبعد الأحزاب والتيارات الصغيرة. هكذا ضمنت النخب استمرار السيطرة على الوزارات الحكومية المهمة وكبيرة الميزانيات.
في المقابل، من يرغبون في الإصلاح من حركات تأييد الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن يحاربون الفساد، ومن يمثلون الأقليات الطائفية، خاصة السنة، تم إبعادهم عن الساحة السياسية، بحيث لا يستطيعون تهديد احتكار التيارات الرئيسية. هذه الطريقة كان يمكنها أن تستمر لو أن الحكومة نجحت في توفير احتياجات الطبقات الضعيفة وخلق عشرات آلاف أماكن العمل الجديدة وتقديم الخدمات العامة المعقولة وإظهار التصميم على محاربة الفساد، الذي يضع العراق في مكانة متقدمة على مقياس الفساد الدولي.
عند اندلاع الاحتجاج في بداية تشرين الأول الماضي وبعد تجاوز عدد القتلى المئة قتيل، ومنذ ذلك الحين قفز إلى 200 قتيل وإلى 4 آلاف مصاب، عرضت الحكومة عدة تحسينات استهدفت تهدئة المتظاهرين، منها تعهد الحكومة ببناء عدد من الشقق الرخيصة وتخصيص قطع أراض لبناء البيوت للفقراء ومنحهم قروضاً بدون فائدة والدفع للعاطلين من بين المتظاهرين 147 دولاراً شهرياً مدة ثلاثة أشهر وإقامة مصانع توفر أماكن العمل وإنشاء محكمة عليا لعلاج ظواهر الفساد.
ولكن هذه الاقتراحات جاءت متأخرة جداً، ويبدو أنها أججت النفوس أكثر. المتظاهرون اعتبروها مثل عظمة رميت للجمهور، وليس عملية استهدفت تغييراً أساسياً في الفجوة الاقتصادية العميقة وثقافة الفساد. شعارات المتظاهرين تحولت من مطالب للتزويد بالكهرباء والمياه والتعليم والعمل إلى مطالب جوهرية تشمل عزل رئيس الحكومة، وبعد ذلك تغيير طريقة الحكم، وبالأساس إلغاء توزيع القوة السياسية حسب معايير طائفية ودينية.
في الأسبوع الماضي، أعلن الرئيس العراقي، برهم صالح الكردي، أنه فهم من رئيس الحكومة عبد المهدي بأنه مستعد لتقديم استقالته شريطة التوصل إلى اتفاق بين جميع القوائم في البرلمان على شخصية من سيحل محله. الرئيس وعد بالعمل على تغيير طريقة الانتخابات وتعيين حكومة انتقالية تعد الدولة لانتخابات مبكرة. ولكن هذه الوعود لا تقنع الجمهور وبحق. تغيير قانون الانتخابات يحتاج إلى دعم نفس النخب السياسية والدينية التي تستفيد من القانون الحالي، التي من غير المتوقع أن تتنازل عن مصدر قوتها.
عدد من السياسيين يوافقون على أنه من الأفضل التضحية برئيس الحكومة، لكنهم يعتبرون هذه الخطوة تصالحية أمام المتظاهرين وليست رافعة للتغيير. في هذه المسألة تم الكشف أيضاً عن الخلاف الكبير بين من يؤيدون إيران في الحكومة والبرلمان العراقيين وبين من يعارضونها. قاسم سليماني، الذي شارك في جزء من نقاشات الحكومة وأجرى اتصالات هاتفية يومية مع رؤساء الأحزاب، يسعى إلى إبقاء عبد المهدي على كرسي رئيس الحكومة. وإيران تخشى أن يُفسر إبعاده ضعفاً للقيادة العراقية، وأنه بعد إزاحته سيرفع المتظاهرون نسبة طلباتهم، حتى انهيار طريقة الحكم التي تمنح طهران اليوم مواطن قوتها. اقترح سليماني، بل طلب، من الحكومة العراقية استخدام قوة زائدة ضد المتظاهرين، وحرض المليشيات الشيعية على المتظاهرين، وحصل على الدعم من الزعيم الأعلى، علي خامنئي، الذي وصف المظاهرات بـ”خرق للنظام تحركه الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية”. ودعا المليشيات الشيعية لمعالجة الأمر. في المقابل، انتشرت تقارير بأن إيران تنوي أن ترسل إلى العراق مليشيات إيرانية درّبها سليماني نفسه لقمع المظاهرات في حالة أن المليشيات الشيعية العراقية لا تنجح في هذه المهمة.
ولكن هنا يواجه خامنئي وسليماني موقفاً مصمماً ومعارضاً للزعيم الشيعي الأعلى في العراق، آية الله علي السيستاني، الذي يعارض استخدام القوة ضد المتظاهرين ويحذر من تدخل قوات أجنبية ودولية تنوي سلب إرادة الشعب العراقي. بهذا، هو يقصد إيران بالأساس. السيستاني الذي هو من الزعماء المؤثرين جداً في العراق وفي الطوائف الشيعية خارجه، يستند إلى مزاج المتظاهرين الذين يطلبون إبعاد إيران عن فضاء النفوذ العراقي وحل المليشيات الشيعية التي تدعمها وتمولها إيران.
موقف السيستاني ينضم إلى موقف الزعيم الانفصالي مقتدى الصدر، الذي يترأس الكتلة التي حصلت على الأغلبية الحاسمة في الانتخابات. ولكن أقواله تتصادم ليس مع نوايا إيران، بل ومع نوايا هادي العامري، زعيم حركة “الفتح” المقربة من طهران، الذي يقترح استبدال طريقة الحكم البرلمانية بالطريقة الرئاسية.
هذه الاقتراحات تثير القشعريرة في ظهر السنة والأكراد وأبناء الطوائف الصغيرة الأخرى الذين يخشون من تقليص آخر في مكانتهم السياسية. هذه الخلافات كافية من أجل معرفة الطريق المسدود الذي وجد العراق نفسه فيها، حيث الصراع على الشارع استمر بكامل القوة، وطلبات المتظاهرين أصبحت أكثر صرامة وأكثر اتساعاً، والتهديد على مكانة طهران يمكن أن يتطور إلى مواجهة مباشرة بين القوات الإيرانية والشعب العراقي.