اليوم بيروت وبغداد وغداً أمر

اليوم بيروت وبغداد وغداً أمر

“اليوم حلب وغدا أمر”، مقالٌ مستوحى من قول امرئ القيس المأثور “اليوم خمر وغدا أمر”، حين بلغه مقتل أبيه، اعتمده بعض اليسار المستميت في الدفاع عن نظام الأسد، ليصف حالة النشوة التي انتابته لرؤية الطيران الروسي يدمّر حلب على رؤوس أهلها. وخلاصة هذا الموقف أنه كان يصف تغير ميزان القوى مع سقوط حلب، ويشمت بتراجع الثورة السورية التي تُركت وحيدةً في مواجهة طائرات الرئيس الروسي بوتين وحلفائه الإيرانيين، سلاحها أكاذيب الرئيس الأميركي، في حينه، أوباما، وخطاباته، وهو الذي قرّر تسليح السوريين الأكراد، مضحياً بغالبية الشعب السوري الذي تصدّى بثورته للنظام ولصنيعته تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
كان ذلك المقال يعبر عن موقف يساري يدافع عن نظام الأسد الطائفي، والذي قرّر إطلاق صفة العلمانية عليه، فوجد نفسه في الخندق نفسه مع المليشيات الشيعية من نجباء وكافة أقارب الله الذين لبوا نداء النظام تحت شعار لبيك يا حسين، من دون أي وهم يساري بشأن علمانية بشار الأسد.
لم يكن هذا الموقف مخطئاً في حدسه لتغير ميزان القوى في سورية آنذاك، فحزب الله الذي استبسل في الدفاع عن نظام الأسد ضد الشعب السوري غيّب الدور الروسي الحاسم في إنقاذ النظام السوري المتهاوي، وابتدع لنفسه “نصرا إلهيا” استقوى به ليستضعف لبنان الخاضع في ملله وطوائفه لموازين القوى الإقليمية التي تخاف من الثورات، وتقف عاجزةً أمام انحسار الدور الأميركي وتذبذبه بين الرياض وطهران، وثباته الوحيد في دعمه المطلق لإسرائيل.
لقد سمح “النصر الإلهي” الإقليمي لحزب الله في سورية أن يحكم قبضته على السلطة في
“سمح “النصر الإلهي” الإقليمي لحزب الله في سورية أن يحكم قبضته على السلطة في لبنان”لبنان، ويستتبع بقايا المارونية السياسية المتداعية شهود زور على الغلبة الشيعية الناشئة، فإذا كانت الغلبة الشيعية المدعومة من إيران تقوم داخليا على ثنائية أمل – حزب الله، فهي تحتاج خارجيا لطربوشين، مسيحي وسنّي، تختبئ وراءهما لتتقي شر العواصف والعقوبات الآتية من الغرب ضد المحور الإيراني الذي تأتمر به.
ما يشهده لبنان اليوم، على الرغم من جمال المشهد الداخلي لجيل جديد ثائر، جاء يقض مضجع خيبات جيلنا وأحلامنا المحطّمة، لا يمكن اختصاره بالتخلص من سماجة جبران باسيل الذي يضرب بسيف حزب الله، فسماجة المذكور وعنصريته ضد الشعبين، السوري والفلسطيني، هما عنوان لهزيمتنا في الربيع العربي في مصر وليبيا واليمن، وخصوصا في سورية المغدورة وفلسطين الشاهدة على عجز العرب. كان حزب الله أول من أدرك خطورة ما يحدث اليوم في بيروت من احتمال امتداد الثورة باتجاه إعادة النظر في نصره في حلب، وبالتالي انهيار توازن الرعب الذي رسّخه في لبنان، وهذا ما يفسر دفاعه المستميت عن عهد صنيعته ميشال عون وجبران باسيل.
ما يحدث اليوم هو أبعد من إسقاط حكومة سعد الحريري لصاحبها حزب الله، وإسقاط التسوية المذلة التي عقدها الحريري مع عهد حزب الله. ما يحدث اليوم هو ثورة من خارج القوى والأحزاب أسيرة توازن الرعب الذي فرضه حزب الله، حين فرض علينا عهد عون القوي. ما يحدث اليوم يتعدّى الخروج من توازن الرعب هذا، إنه خطوة نحو الحرية، من هنا جماله وخطورته معا. جمال مشهد جيل شاب، ربما يدرك مخاطر حلمه بغد أفضل، ولا يأبه بموازين القوى، نجح في إخراجنا من إحباطاتنا المتراكمة، وجعلنا ننتظر ما سيحدث لهم غدا في بيروت وطرابلس وبعلبك وصور والبصرة وبغداد وكأنه غدنا. صدق ابني الذي قال “اليوم بيروت وبغداد وغدا أمر”، وخسئ اليسار القائل “اليوم حلب وغدا أمر”.
على الرغم من نجاح إيران حتى الآن في الاستفادة من انحسار النفوذ الأميركي في العالم
“إيران تواجه ثورتين متلازمتين في كل من العراق ولبنان”العربي، وتمكّن حليفها الروسي من الاستفراد بالملف السوري، إلا أنها تواجه ثورتين متلازمتين في كل من العراق ولبنان. لقد سارع المرشد الإيراني، علي خامنئي، إلى التحذير من خطورة تلازم مسارهما على النفوذ الإيراني في العالم العربي، ودعا إلى وأدهما بزعم أنها حركات شغبٍ مدعومة من أميركا والعدو الصهيوني، وممولة من الرجعية العربية! لقد حدّد خامنئي، بقراءته الإقليمية هذه، خطورة انتفاضة الشعبين، اللبناني والعراقي، وخطورة تلازم مسارهما، فأوكل إلى قاسم سليماني (الحجاج بن يوسف) مهمة قمع الثورة العراقية، كما أمر وكيله أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، تدبر شأن الثورة في لبنان، وفصلها ما أمكن عن الثورة العراقية.
أهمية الثورة في كل من العراق ولبنان تُقرأ من خلال أبرز شعارين يعطيهما بعدهما السياسي الذي يؤطر مطالبهما الاجتماعية ضد الفقر والفساد والنهب: “عراق حرّه حرّه، إيران برّا برّا”، هو الشعار المركزي الذي بادرت إلى طرحه انتفاضة شيعية مدعومة من مرجعيتها الدينية في النجف، ونجحت في توحيد الشعب العراقي، بكل مكوناته، في وجه الاحتلال الإيراني للعراق. هذا بالضبط ما يقلق خامنئي، ويفسر قمعه الدموي الثورة. إنه خامنئي نفسه الذي قال عنه نصرالله إنه “حسين زماننا الحاضر”.
“يا حسين، تشفع لأهلنا بالنبطية” هو الشعار الآخر الذي رفعته انتفاضة فقراء طرابلس في وجه الثنائية الشيعية التي تقمع الانتفاضة الشيعية في صور والنبطية باسم ولاية الفقيه، جاء هذا الشعار ليذكّر نصرالله بأن خامنئي الذي يقمع الشيعة والسنة على السواء لا يمكن أن يحل مكان الحسين شفيع المقهورين والمغلوبين، وليذكّره أيضا بأن فقراء طرابلس لا يمكن تكفيرهم لأنهم ضد بشار الأسد، وبأنهم، بصفتهم مسلمين، يؤمنون بالحسين المظلوم لا بخامنئي الظالم الذي لا يشكل قدرا محتوما لا للشيعة ولا للسنة.
هذان الشعاران يحدّدان تلازم شعبين ثائرين في كل من العراق ولبنان، في وجه نظامين تسعى
“من حسنات الثورات العربية أن تكون مثلاً ضد تهديد إصبع حسن نصرالله وتهديد منشار ولي عهد السعودية”إيران إلى تطويعهما وإلحاقهما بولاية الفقيه، وهو ما لم يكن بمقدورها تحقيقه في سورية، حيث اضطرت للقبول بحيز النفوذ الذي يسمح به بوتين لاعبا أساسيا في سورية.
في العراق، تجلت وحدة الشعب في نضاله ضد الفساد بإدراج مطالبه الاجتماعية تحت شعار الاحتلال الإيراني، المسؤول عن نهب ثروة العراق وتأمين الحماية والدعم لأحزاب طائفية ينخرها الفساد. في حين تم تصوير الثورة في لبنان من معظم اليساريين المنخرطين فيها بأنها انتفاضة محض اجتماعية ضد الجوع والفساد، تستهدف فقط الطبقة السياسية الحاكمة، من دون التطرّق لدور حزب الله في الفساد، وكأنه يحتل موقعا مقاوما غير خاضع للمساءلة. يقوم هذا التحليل على فصل الاقتصادي عن السياسي، وفصل الثورة في لبنان عن الثورة في العراق (أي لبننتها)، وهذا ما تسعى إليه تحديدا إيران.
بغياب رؤية إقليمية للثورة، تنتفي إمكانية مساءلة الدور الإقليمي لحزب الله باعتباره جنديا لولاية الفقيه في البلدان العربية من اليمن، إلى العراق، إلى سورية وصولا إلى إيران نفسها، أو مساءلته بشأن دوره في إدارة النهب وحماية اللصوص، بحجة أن المقاومة هي فوق الشبهات، حتى لو ساهمت في ذبح الشعب السوري، دفاعا عن نظام الأسد. كيف يمكن لحزب الله أن يكون مع المظلومين في لبنان، وهو الذي يقف مع معظم الأنظمة الظالمة والمستبدة في العالم العربي؟
من حسنات الثورات أنها تفتح باب التساؤل الحر والخيار غير المنتمي سلفا كأن تكون مثلا ضد رئيس لبنان، ميشال عون ورئيس القوات اللبنانية، سمير جعجع، معا، لأن المستقبل حمّال وجوه، أو أن تكون مثلا ضد تهديد إصبع حسن نصرالله وتهديد منشار ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، في الوقت نفسه، لأنك اكتشفت أنك ضد كل تهديد أصلا، أو أنك تريد تحرير فلسطين والأندلس والإسكندرون، وذلك غير ممكن على يد مقاومة منحازة للظالم ضد المظلوم. حرية الاختيار هذه في الثورات لحظة جمالية تشبه اختيار مفردات عاديةٍ لابتداع شعر يتغزّل بمستقبل جميل متخيّل، أو يشتم حاضراً قبيحاً مجرّباً.