اولا: التنمية وبناء الانسان
تشكل حقوق الانسان اليوم مدخلا للتنمية والاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي والتنوع الثقافي، فهي باختصار تدفع الى احترام ارادة الانسان وفكره، وحريته ودوافعه الفردية، وحينما يتحرر الانسان من عقدة الاضطهاد والقهر ويمارس حريته في الفكر والمعتقد والدين واللغة والثقافة ، يصبح فردا منتجا مبدعا وصانعا للحياة، وهو ما نراه اليوم في المجتمعات المتقدمة التي بات للإنسان فيها قيمة عليا، حيث تتاح امامه كل امكانات الابداع والتقدم .
وقراءة الواقع العربي تكشف ان قيم ومفردات حقوق الانسان مازالت مغيبة فكرا وسلوكا، فلا القائمين على صنع القرار يسمحون بإنماء واقع سياسي يدفع لتغيير حال الاضطهاد الذي كرسوه، ولا ثقافة المجتمع وطبيعة المواطن العربي المقهور تؤسس لقبول الانفتاح والتعايش المنضبط والمفضي الى تحقيق الاستقرار والنماء وهو ما كشفت عنه طبيعة الثورات العربية حيث جنح الكثير من فئات الشعب الى استغلال مساحة الحرية المتاحة لإلغاء الاخر واستخدام كل اشكال الاقصاء المادي والمعنوي ضده.
وفي واقعنا العراقي مازالت قيم حقوق الانسان اسيرة صراع بين اطراف ثلاث هي: الدولة التي لم ترتق بمنظومتها السياسية والقانونية الى المستوى الذي يؤهلها لتطوير حياة المواطن العراقي ويفعل طاقاته في البناء والتنمية، والمجتمع الذي مازالت قيمه الاجتماعية ولادة لمفردات العنف والالغاء وسياسة الغلبة والاستئثار. والمنظمات الوسيطة بين المجتمع والدولة التي تسمى المؤسسات غير الرسمية او منظمات المجتمع المدني التي مازلت ملوثة بتخلف المجتمع وشراهة السلطة ولم تستطع ان تختط لنفسها اليه عمل مستقلة وربما نزيهة في ميدان حقوق الانسان .
ولذلك بقيت قيم حقوق الانسان تعاني التدني والاهمال، والتردي الذي انعكس على كل منظومة الحقوق في العراق تشريعا وتنظيما، ولاشك ان الحقوق الاجتماعية كانت من بين الحقوق المغيبة ، حيث ظلت فئات كثيرة من المجتمع العراقي التي انهكتها الحروب الخارجية والصراعات الداخلية وماجرته من عمليات تهجير ونزوح داخلي الى استنزاف تلك الفئات تعيش على هامش الحياة وبعيدا عن مقومات العيش الامن والكريم .
ثانيا: قانون الحماية الاجتماعية ومشكلة الفقر في العراق
لقد شكل صدور قانون الحماية الاجتماعية رقم (11) لسنة 2014 ، بادرة جديرة بالاحترام اقدم عليها البرلمان والحكومة العراقية لمساندة الطبقات الفقيرة في المجتمع العراقي والتي بلغت قبل احداث “داعش” ما يقارب 19% وبما يؤمن لها واقعا معيشيا يعينها على مواجهة الظروف الحياتية الصعبة . ولعل اهم الاثار المستقبلية للقانون انه سيسهم في تعزيز قيم التكافل والتراحم في المجتمع والتي بدأت بالاندثار امام قيم الاستئثار والاستهانة بالآخر وعدم احترام القيم العامة التي تحث على نصرة المظلوم وردع الظالم.
لقد سعى القانون الى ان تكون كل الفئات الفقيرة مستهدفة ومشمولة بالدفعات المالية التي يقدمها ، فتحدث عن ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة ، والارملة والمطلقة وزوجة المفقود والمهجورة والفتاة البالغة غير المتزوجة والعزباء وكذلك العاجز واليتيم واسرة النزيل او المودع اذا زادت محكوميته عن سنة واكتسب حكمه الدرجة القطعية وكذلك نزلاء الدور الايوائية والاحداث المحكومين والطلاب المتزوجين لغاية الدراسة الاعدادية ، وختم القانون بكل اسرة عراقية معدومة الدخل او التي يكون دخلها دون مستوى خط الفقر الذي حددته وزارة التخطيط ب 105 الف دينار لكل فرد من افراد الاسرة ولحد اربع اشخاص في الاسرة .
القانون فيه مميزات مهمة ومنها: ما سمي بالدفعات المشروطة ويقصد بها ان يتم اعطاء الاسر مبالغ اضافية لأولادها المسجلين في المدارس لقاء استمرارهم في الدراسة ومداومتهم على مراجعة المراكز الصحية، وهو ما يعني في المحصلة تنمية راس المال البشري علميا وصحيا.
وتزداد اهمية القانون لان مبلغ الـ 105 الف دينار قابل للزيادة في ظل تغير الواقع الاقتصادي ونسب التضخم، كما انه يتيح لمجلس الوزراء شمول فئات جديدة غير مذكورة في القانون بناء على اقتراح وزير العمل والشؤون الاجتماعية، ولقد سمح القانون كذلك بتشكيل هيئة للحماية الاجتماعية تتمتع بالاستقلال المالي والاداري ومرتبطة شكليا بوزارة العمل، وتشرف على توزيع الدفعات المالية للمواطنين، وهذه الهيئة لها صلاحيات واسعة في الشمول على صعيد محافظات العراق كافة ووفق نظام اللامركزية الادارية الذي يعطي كذلك لفروعها صلاحيات الشمول وفق واقع كل محافظة وظروفها الاقتصادية والاجتماعية.
والهيئة تعتمد نظام البطاقة الذكية الذي يتيح للمواطن استلام مستحقاته في اي مصرف تجاري في العراق دون الحاجة الى مراجعة دوائر الحماية وهو نظام متطور يسهم في تخفيف المعاناة عن المواطنين، ولكن الهيئة بحاجة الى ان تطور نظما اخرى غير البطاقة الذكية لتوزيع انواع الاعانات الاخرى التي نص عليها القانون ولاسيما الاعانات العينية من ملابس وغذاء وتخفيضات ضريبية .
ثالثا: القانون ومعوقات التنفيذ
كأي قانون صدر في العراق تبقى عملية ايجاد اليات سلسة للتنفيذ ليست بالهينة في ظل البيروقراطية المقيتة والروتين الاداري والفساد المالي والتدخلات الحكومية، وستعيق الاوضاع الامنية المنفلتة في العراق والخلافات السياسية وتأخر اقرار الموازنة تنفيذ القانون هذا العام (2014) ولن يجد تأثيره الايجابي في الحد من الفقر في العراق مالم تتهيأ ارضية مناسبة للتنفيذ في المدى المنظور، يتم من خلالها تزويد الهيئة بالموارد اللازمة لصندوق الحماية الاجتماعية، وتوفير كوادر مدربة فنيا وتهيئة اعداد كافية من الباحثين الاجتماعيين، الذين يتولون عملية البحث عن العوائل الفقيرة في بغداد والمحافظات وشمولها بمبلغ الاعانة.
إذ مازالت وزارة العمل تفتقر للكوادر الكافية والمدربة وهناك نقص واضح في اعداد الباحثين الاجتماعيين، الذين يتحملون مهمة استهداف العوائل الفقيرة واقرار شمولها، اذ لا يتجاوز عدد الباحثين في دائرة الرعاية الاجتماعية 90 باحثا اجتماعيا معظمهم غير حاصل على شهادة تخصصية في علم الاجتماع او علم النفس، في حين ان اجراء مقاربة مع دول مجاورة للعراق تظهر ان الاعداد الكافية للباحثين الاجتماعيين اسهمت في انجاح واستقرار نظام الحماية الاجتماعية لديها، ففي لبنان مثلا تجاوز عدد الباحثين الاجتماعيين الـ (1000) باحث، وفي تركيا تجاوز (8000) باحث اجتماعي يغطون كل محطات الاستقبال في المحافظات التركية.
ومن المشكلات التي تواجهها عملية تنفيذ القانون صعوبة تامين الربط الشبكي مع مؤسسات ووزارات الدولة لأعمال تقاطع بالمعلومات والبيانات بهدف كشف المتجاوزين على الشبكة، بسبب البيروقراطية والروتين الاداري كما انه من المشاكل التي ستواجه تطبيق القانون احتمالية عدم التزام مؤسسات الدولة بدفع مستحقاتها المالية لصندوق الحماية الاجتماعية، فضلا عن ان القانون لم يحدد اليات واضحة لتتبع الاموال وصرفها، مع عدم وجود ضوابط صارمة فيما لو لم يتم استحصال المبالغ المخصصة للصندوق من المصادر المشار اليها في القانون .
ومن التحديات المهمة لتطبيق القانون ايضا احتمالية عدم استمرار الدعم الفني من قبل البنك الدولي بالخبرات والتقنيات، التي تسهم في رفع مستوى برامج الحماية الاجتماعية، فانقطاع ذلك الدعم يجعل نظام الحماية مرتبكا وفاقدا لروح التواصل مع الخبرات الدولية اللازمة لإنجاح هذا المشروع الاستراتيجي الحيوي.
ومن بين التحديات الاخرى ايجاد اليات للتواصل مع المستفيدين ببرامج الحماية؛ لتوعيتهم بحقوقهم ونشر ثقافة جديدة في المجتمع العراقي تقوم على الايثار بدل الاستئثار، وان اموال الدولة مصونة ويجب الحفاظ عليها وعدم التحايل للحصول عليها بطرق غير مشروعة.
وتقوم المؤسسات الدينية ووسائل الاعلام والمحاضرات التوعوية والبرامج الارشادية بدور مهم في نشر ثقافة جديدة ووعي مغاير لما هو قائم عند الناس، والمتمثل بان الدولة خصم يجب استغلاله بأبشع صور الاستغلال، فثقافة الغنيمة متجذره في الوعي والسلوك العراقي وامثلة (شعرة من جلد خنزير) و ( سمكة وراسها خايس ) و ( شليلة وراسها تايه ) تعبر عن تراكم هائل من الثقافة المنحطة التي مازالت تحكم عقلية المواطن العراقي حيال الدولة ومؤسساتها، ومما اسهم في هذه الثقافة بلا شك هو حجم الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وتسليم المسؤولية لأشخاص لاهم لهم سوى الاثراء من المال العام، وعدم المساواة في توزيع الثروة وانتشار ثقافة الافلات من العقاب، وتردي منزلة القانون في اثبات الحقوق وغيرها من الاسباب الموجبة لكراهية الدولة في العقل الجمعي لغالبية العراقيين.
ولعل من اكثر المشكلات التي يمكن ان تواجه تنفيذ القانون هي التدخلات السياسية وسعي بعض الجهات والشخصيات الى توظيف عمليات شمول العوائل لغايات انتخابية، مما يعني الضغط على مسؤولي الحماية لإدخال عوائل وافراد غير مستحقين، اضافة لسعي بعض رموز السلطة لزيادة حصة محافظات على حساب محافظات اخرى لدواع طائفية او عشائرية او عنصرية، اضف الى ذلك ان تشكيل هيئة الحماية الاجتماعية واختيار اعضائها وفق منطق المحاصصة الحزبية سيضعف الهيئة ويقيد عملها واستقلاليتها.
ان هذه التحديات تستدعي تضافر كل مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية والفعاليات الشعبية لرسم خارطة طريق تعيد تشكيل وعي المجتمع العراقي بشكل جديد يوظف برامج الحماية الاجتماعية، لكي تكون احدى الادوات الفاعلة في تحقيق الاستقرار السياسي وتعزيز الوحدة الوطنية بين العراقيين، من خلال ابرازها لمفهوم العدالة والمساواة في توزيع الثروة دون تمييز او اقصاء، ومن غير ازالة تلك التحديات تبقى جهود ازالة الفقر معطلة واحلام بناء مجتمع مستقر ومتوازن مؤجلة الى اجل غير مسمى .
محمد العزاوي