أوشكت الحروب الأهلية الطائفية والإثنية التي عصفت بجزء كبير من الشرق الأوسط على مدى السنوات الأربعين الماضية على نهايتها. وقد بدأ يأخذ محلها نوع جديد من الصراع، في صلبه احتجاجات شبيهة بانتفاضات شعبية، تهزُّ أركان النخب الفاسدة التي تستمد قوتها من مزاعم الدفاع عن المجتمعات المعرضة للعنف الشديد أو للاندثار.
في أوائل أكتوبر، جلست في غرفتي الفندقية في بغداد، أفكر في كتابة مقال عن عودة السلام إلى العاصمة العراقية بعد هزيمة داعش. كانت قد مرت ثلاث سنوات منذ انفجار آخر قنبلة كبيرة في شوارعها ما أسفر عن مقتل أعداد كبيرة، وهو ما كان يتكرر بوتيرة مروعة.
كنت على وشك بدء العمل عندما سمعت “أزيزا” بعيدًا أدركت أنه صوت طلقات الرصاص. وفي الوهلة الأولى اعتقدت أنه يصدر من حفل زفاف أو مباراة كرة قدم. لكن استمرار أصداء إطلاق النار لمدة طويلة جعلتني أشك في هذا التفسير، فأخذت المصعد إلى الردهة بقصد معرفة ما كان يحدث في الشارع خارج الفندق. لكن قبل وصولي إلى هناك، أخبرني رجل أن قوات الأمن كانت تطلق النار على المتظاهرين في ميدان التحرير على مقربة من المكان وأن “هناك 10 قتلى بالفعل.”
ارتفع لاحقا عدد القتلى إلى أفدح من ذلك بكثير، حيث أشارت الأرقام الرسمية إلى 157 قتيلاً و610 جريحا، لكن الأطباء أخبروني في ذلك الوقت أن العدد الحقيقي للقتلى كان أعلى بكثير. طالب المتظاهرون الذين كانت أعدادهم صغيرة في البداية بالوظائف ووضع حد للفساد وتحسين الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء بشكل أفضل. لكن أحداً ما في جهاز الأمن الحكومي، تدعمه قوات شبه عسكرية موالية لإيران، اعتبر أن هذه المطالب بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية تشكل تهديدًا للوضع السياسي الراهن ويجب قمعها بنيران البنادق الحية وحظر التجول والانترنت على سبعة ملايين من سكان بغداد.
نجحت عملية القمع لفترة وجيزة، لكن بالنظر إلى عمق الغضب الشعبي على سرقة 450 مليار دولار من عائدات النفط العراقية منذ عام 2003 كان لابد أن تندلع الاحتجاجات مرة أخرى، وهو ما حدث يوم الجمعة وأدى إلى مقتل 23 شخصاً وإحراق مكتب أحد المحافظين.
اعتقدت أن هذا بالضبط هو ما كان يحدث بعد بضعة أسابيع عندما عدت إلى المملكة المتحدة وأشعلت التلفزيون وشاهدت حشودا من المحتجين في ما كان واضحا أنها مدينة شرق أوسطية. لكن تبين أنها بيروت وليست بغداد، رغم أن الدافع واحد وهو الغضب على طبقة حاكمة مشبعة بالفساد وفاشلة في توفير الخدمات الأساسية للسكان. لقد كان مُشجعاً رؤية قيادات الطوائف المختلفة في العراق ولبنان وهي تكتشف أن أتباعها ينظرون إليها على نحو متزايد كمافيات، ويتجاهلون نداءاتها للتضامن الطائفي.
إنها فترة انتقالية ولا ينبغي لأحد أن يقلل من قدرة الزعماء الطائفيين المحاصرين على ضغط الأزرار الطائفية المناسبة لتقسيم معارضي حكمهم الفاسد الضاري.
ذهبت لأول مرة إلى المنطقة في عام 1975، مباشرة بعد الحرب الطائفية في أيرلندا الشمالية، لتوفير تغطية إعلامية عن بداية الحرب الأهلية اللبنانية بين فسيفساء من المجتمعات المحددة على أسس دينية وعرقية. وفي السنوات اللاحقة في العراق، شاهدت تزايد الانقسامات بين السنة والشيعة والتي نتجت عنها حمامات دم طائفية بعد سقوط صدام حسين في عام 2003. وفي سوريا تحولت الاحتجاجات الشعبية في عام 2011 بسرعة إلى حرب أهلية طائفية وإثنية تميزت بشراسة استثنائية، لكنها اليوم ربما تقترب من نهايتها.
غير أن هذه النهاية الوشيكة لا ترجع إلى إدراك المقاتلين من جميع الأطراف أخطاء توجهاتهم، أو لأنهم لاحظوا فجأة ولأول مرة أن قادتهم في معظم الأحيان رجال أعمال مجرمين. إن سبب قرب نهاية الحرب هو بالأحرى ظهور فائزين وخاسرين فيها، لذلك لم يعد بإمكان من هم في السلطة صرف الأنظار عن الفساد الشامل من خلال الادعاء بأن طوائفهم معرضة لخطر الهجوم من أعداء لا يرحمون.
لقد تحددت هوية المنتصرين والمهزومين في لبنان منذ فترة طويلة وأصبحوا واضحين في العراق بعد الاستيلاء على الموصل وهزيمة داعش في عام 2017. وفي سوريا أصبح الفائزون والخاسرون في الحرب الأهلية أكثر وضوحاً خلال الشهر الماضي بعد سيطرة بشار الأسد وروسيا وإيران على البلد بأكمله تقريبًا.
استطاع الأكراد العراقيون والسوريون إنشاء وتوسيع كياناتهم شبه المستقلة عندما كانت الحكومات المركزية في بغداد ودمشق ضعيفة وتتعرض للهجوم من قبل داعش. لكن هذه الكيانات لم تكن أبداً لتستمر بعد هزيمة داعش. فقد خسر الأكراد العراقيون محافظة كركوك النفطية لصالح الجيش العراقي في عام 2017. وقد شهد الأكراد السوريون للتو كيانهم شبه المستقل، روجافا، يتعرض للخنق حتى الاندثار من قبل الأتراك من جانب والحكومة السورية من جانب آخر بعد رفع دونالد ترمب الحماية العسكرية الأميركية عنهم.
إن مصير الأكراد مأساةٌ، لكنها حتمية. فبمجرد هزيمة داعش بعد حصار الرقة في عام 2017، لم يكن ممكنا على الإطلاق أن تحافظ الولايات المتحدة على كيان كردي محاط بالأعداء من كل جانب. وعلى الرغم من كل اتهاماتهم بالخيانة لأميركا، كان القادة الأكراد يعرفون هذا، لكن لم يكن لديهم طرف بديل يلجؤون إليه للحماية، باستثناء روسيا والأسد، اللذين لم يكن بإمكانهم ضمان دولة كردية شبه مستقلة.
إن إحدى المشكلات التي يطرحها شرح التطورات في الشرق الأوسط على مدى السنوات الثلاث الماضية هي أن مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية التي تدعمها معظم وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية تُلقي باللوم في كل التطورات السلبية على الرئيس ترمب. ويعد هذا تبسيطا فادحا إن لم يكن مضللاً بالكامل. ربما كان قراره المفاجئ والخبيث بترك الأكراد لتركيا قد ضاعف من معاناتهم، لكن سحب القوة الأميركية الصغيرة من شرق سوريا كان قراراً عاقلا بما يكفي. لقد كانت محاطة بقوات أكثر عددا من أربعة أطراف معارضة وخطيرة وحازمة وهي تركيا وإيران وروسيا وحكومة الأسد.
لقد أصبحت الآن النتيجة النهائية للحروب السورية المتعددة على مرمى البصر. سوف تحتفظ تركيا بجيب صغير غير مستقر في سوريا، لكن بقية الحدود السورية التركية ستتم مراقبتها من قبل القوات الحكومية السورية والروسية، التي ستشرف على انسحاب وحدات حماية الشعب إلى عمق 21 ميلاً نحو الجنوب. والسؤال الأكثر أهمية هو إلى أي حد سيشعر المدنيون الأكراد، الذين فروا من القتال، بالأمان للعودة إلى أراضيهم. إن النقطة الحاسمة التي بدأت تبرز من لقاء فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في سوتشي يوم الثلاثاء الماضي، هي أن تركيا تتجه نحو الاعتراف ضمنياً بحكومة الأسد المدعومة من روسيا. وستعترف بها تركيا كحامية لحدودها الجنوبية ضد وحدات حماية الشعب. هذا يجعل من غير المرجح قيام أنقرة بتحرك لوقف هجوم محتمل للحكومة السورية وروسيا لاستعادة، ربما تدريجيا، آخر معقل للمعارضة السورية المسلحة في إدلب.
إن ما جعل الكراهية الدينية والطائفية في المجتمعات مدمرة للغاية في لبنان سابقا وسوريا والعراق حديثا هو أنها فتحت الباب أمام التدخل الأجنبي. لقد تحوّلت الفصائل المحلية إلى وكلاء بلدان خارجية تسلحها وتمولها في سعيها لتحقيق مصالحها الخاصة. وفي الوقت الحالي على الأقل، ليس لدى أي قوة أجنبية مصلحة في إثارة القلاقل في هذا الجزء الشمالي من الشرق الأوسط، والتي كانت منطقة حرب لمدة 44 عاما، وهناك فقط فرصة عابرة لتحقيق سلام دائم.