في يونيو (حزيران) الماضي، كتب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تغريدة له أن “إيران لم تكسب حرباً، لكنها لم تخسر أي مفاوضات”. لكن مراكز بحثية أميركية وبريطانية تقول إن إيران فقدت الثقة في المفاوضات بعد انهيار الاتفاق النووي، وتخوض الآن معركة يائسة من أجل كسب حرب ليست على أرضها ولا بجنودها، إنما في العراق ولبنان بأرواح مقاتلي الميليشيات الشيعية، الذين تستغل انتماءهم العقائدي لتحقيق أهدافها المتمثلة في خلق حزام حماية حيوي خارجي لإيران.
ولأن محاولات إيران فرض هيمنتها تواجه أكبر تحد لها منذ سنوات نتيجة الاحتجاجات المناهضة للحكومة في كل من العراق ولبنان، اختارت طهران الدفاع عن حلفائها من الجماعات الوكيلة لها في البلدين، وكررت خطاب المقاومة القديم، حيث أن التخلي عن “شبكات النفوذ” هذه لا يعني خسارة نفوذ إيران وقدرتها على التأثير فحسب، بل يعني أيضاً خسارة هوية هذه الشبكات والجماعات الوكيلة، وفق ما أشار تقرير صادر عن المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية.
ووفقاً للتقرير، الذي تضمن تفاصيل مقلقة حول المدى الذي بلغه التدخل الإيراني الخبيث في الشؤون الداخلية للدول العربية، فإن شبكة التحالفات التي شيدتها طهران خلال السنوات الأخيرة تعني أن لديها ميزة مهمة على خصومها حينما يتطلب الأمر خوض حروب. ذلك أنها تعتمد بقوة على حزب الله في لبنان والميليشيات الشيعية في العراق، التي تقوم بما وصفه التقرير بـ”الأعمال القذرة”، في حين أن غالبية الدول الأخرى تعتمد على قواتها النظامية وجيوشها التقليدية لحماية مصالحها وأمنها القومي، وهي قوات تحكمها قوانين الحرب المعترف بها دولياً.
المنطقة الرمادية
ويشير التقرير إلى أن التراخي الغربي وعدم وجود رد دولي حاسم ضد الأنشطة الإيرانية في المنطقة خلال الأعوام والعقود الماضية، جعل ميزان القوى في الشرق الأوسط يميل نسبياً لمصلحة إيران. فالولايات المتحدة وحلفاؤها مازالوا يحتفظون بتفوق عسكري واضح على إيران، إلا أن طهران أثبتت أنها أكثر فاعلية في الصراعات التي تدور في ما يُوصف بـ”المنطقة الرمادية” بعيداً من أراضيها. وهذا يعني أن إيران قادرة على تجنب المخاطرة بحرب تقليدية تجري فيها المواجهات العسكرية بين الدول، وهي حرب من المحتمل بشكل كبير أن تخسرها.
وبدلاً من ذلك نجحت إيران في إدارة حروب عبر طرف ثالث كما فعلت في دعمها ومساندتها نظام بشار الأسد، وفي التدخل لدعم الحوثيين في اليمن ومساندة قوات الحشد الشعبي في العراق.
وعلى الرغم من تزايد محاولات إيران لنشر نفوذها في العالم العربي وبخاصة بعد توقيع الاتفاق النووي، إلا أن العديد من الباحثين في مراكز التفكير الأميركية يرون أن هناك دليلاً واضحاً على تنامي مقاومة النفوذ الإيراني في العالم العربي. وهو ما يمكن ملاحظته بقوة في العراق، حيث أظهرت الاحتجاجات التي هزت البلاد مدى رفض الوجود الإيراني الذي يعود إلى فترة العنف الطائفي الذي شهده العراق عقب الإطاحة بنظام حكم الرئيس صدام حسين عام 2003، حينما مولت إيران وسلحت ودعمت العديد من الميليشيات الشيعية.
وتشير هذه الاحتجاجات إلى رفض التدخل العسكري الإيراني السافر في العراق والذي تجلى بوضوح في ظهور قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في بغداد، والذي كانت مهمته الرئيسة منع رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي من تقديم استقالته، وهو ما يعكس حجم النفوذ الذي تمارسه إيران في توجيه الشؤون الداخلية للحكومة العراقية.
وتؤكد صحف أميركية وبريطانية أنه في اليوم التالي لاندلاع التظاهرات الاحتجاجية، ترأس قاسم سليماني اجتماعاً شارك فيه عدد من المسؤولين الأمنيين العراقيين، وهو الدور الذي يفترض أن يقوم به رئيس الوزراء. وفي اليوم التالي لقي أكثر من 100 متظاهر حتفهم قتلاً على يد قناصة مجهولين وعناصر من ميليشيا الحشد الشعبي المدعومة من إيران.
فشل سياسة القبضة الحديدية
لم تولد سياسة القبضة الحديدية التي أدت خلال الأيام الماضية إلى مقتل 267 شخصاً، سوى مزيد من التظاهرات والاحتجاجات، حيث خرجت أضخم احتجاجات يشهدها العراق منذ سقوط نظام صدام حسين بتجمع الآلاف وسط بغداد. كما هاجم المحتجون القنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء الشيعية، وأزالوا العلم الإيراني ورفعوا مكانه العلم العراقي.
بالإضافة إلى ذلك، شن محتجون هجمات على قواعد ميليشيا الحشد الشعبي في كل من الناصرية والديوانية والتي قُتل فيها 13 متظاهراً، حينما تعرضت منظمة بدر المدعومة من إيران لهجمات.
وفي لبنان، الذي يعد أهم بلد شرق أوسطي حليف لإيران، هاجم مقاتلون تابعون لحزب الله المتظاهرين السلميين في محاولة يائسة لمنع التيار الاحتجاجي من اكتساب مزيد من الزخم. كما ذكرت تقارير صحافية أن تظاهرات ضد حزب الله اندلعت في مدينة بعلبك والتي ظلت معقلاً حصيناً لإيران منذ تأسيسها حزب الله عام 1984.
غير مرحب بإيران
وفي حين تشير تقارير بحثية إلى أن إيران قد تلجأ في النهاية إلى خيار التفاوض حول حجم وقوة شبكات النفوذ التابعة لها في العراق ولبنان في حال امتداد وتواصل الاحتجاجات والاضطرابات، إلا أنها سوف تسعى إلى الصمود ومقاومة التغيير والحملات الشعبية الضاغطة عبر مساندة وكلائها، نظراً إلى أن المجتمعات المنقسمة والدول الضعيفة تصبح فريسة وصيداً سهلاً للنفوذ الإيراني.
ولهذا تنصح مراكز الدراسات الغربية بدعم مؤسسات الدولة في الشرق الأوسط كي تخدم مصالح الدولة الوطنية، والتي تعد خط الدفاع الأول ضد محاولات النفوذ والتأثير الخارجي، وأن مواجهة النفوذ الإيراني يجب أن ترتكز على هذه الإستراتيجية.
لكن بصرف النظر عن محاولات إيران المستميتة للإبقاء على نفوذها في المنطقة، فإن الرسالة خرجت بصوت عال وواضح في جميع أرجاء العالم العربي، وهي أن سعي إيران إلى التدخل في الشؤون الداخلية للعرب غير مرحب به.