على الرغم من أن النظامَ العراقي، وفق المعلن، أنه نظامٌ ديموقراطيٌّ تعدديٌّ فيدراليٌّ كما يؤكد الدستور الذي أُعلن بعد التغيير العام 2003 الذي اُعتمد نهجاً، فإن القوى السياسية التي توافقت عليها أحزاب السلطة الثلاثة: الشيعية والسنية والكردية جعلت النظام (محاصصي) بمرجعيات دينية لدى الشيعة، وسياسية لدى السنة، وقومي لدى الأكراد، وقسّمت السلطة على مقاس توزيع تركة النظام السابق استجابةً لمؤتمراتها المبيتة، التي بدأت منذ مؤتمر فينا العام 1992، تواصلاً مع مؤتمري لندن وصلاح الدين في أربيل، انسجاماً مع مطالبه المايسترو الأميركي بول بريمر القائد المدني في العراق العام 2003 الذي أرسى دعائم السلطة الجديدة بالحديد والنار، وصبّها في قالب تحاصصي على مقاس الجميع، ومنح الكرد امتيازاً، لأن يكونوا الثلث المعطل لأي قرار في الدولة.
السياسيون الشيعة الذين تولوا أربع حكومات متتالية وفق الأغلبية السياسية في تحالف يُطلق عليه العراقيون ساخرين تحالف (وجوه متوالفة وقلوب متخالفة)، الذي وفّر أكبر غطاء لتقاسم السلطة والمال خلال 16 عاماً زاد على 800 مليار دولار، ينتقدهم العراقيون بأنهم لم يتمكنوا من بناء جسر واحد في بغداد، واكتفوا بالمكوث في قصور بناها صدام، ومنعوا اقتراب الجمهور من الوصول إليها، واتخذوها “منطقة خضراء” مغلقة، ومنحوا الولايات المتحدة أكبر سفارة في العالم تقع في قلب العاصمة العراقية بغداد.
وحتى انسحاب القوات الأميركية العام 2011 فإن الأحزاب والقوى السياسية التي تقود الحكومة والبرلمان ظنّت أنها فرضت نظام الحكم الأبدي الذي لا يمكن تخطيه من الشعب، وجعلت من الخيمة الإيرانية غطاءً ضامناً لها، كي تدير السلطة كما تشاء، جاعلةً من المرجعية الدينية صمام أمان لها في علاقاتها بالجمهور الشيعي الذي اعتاد احترام وطاعة تلك المرجعية التي هي المقدس الديني في نظر عامة الشيعة البسطاء.
لكن تظاهرات الأول من أكتوبر (تشرين الأول) قلبت مزاج الرأي العام العراقي، وكشفت عن حجم ونوع الاعتراض المتأصّل في جوهر الطائفة الشيعية، ورفضها الهيمنة الخارجية والفساد الذي استشرى في الطبقة السياسية الحاكمة، الذي غالى في احتكار السلطة والمال، وظنّ أن الجمهور يسير وفق تلك الثوابت المفروض عليه، مستغلين احترامهم وثقتهم بالمرجعية الشيعية التي يهرع إليها السياسيون كلّما مرّ البلد بأزمة، أو للحصول على مباركة لتسمية رئيس وزراء جديد حقيقة أم إعلاناً دعائياً بقصد الحصول على المباركة!
وكان آخر الذاهبين إليها رئيس الحكومة الحالي الذي قدَّم هناك تصوراً عن أزمته مع المتظاهرين السياسيين، لكنّه وجّه بموقف المرجعية الذي قالت له من جديد عليك أن تحاسب الفاسدين، وتحترم الاحتجاجات، لأنها دستورية.
لكن، الجمهور لم يمنح عبد المهدي فرصة أخرى، حين تدفق مئات الآلاف من الشباب إلى صوب ساحة التحرير تحت زخّات الرصاص الحي التي أطلقتها حكومة عبد المهدي على رؤوسهم من صنع إيراني وصربي، كما يؤكد المتخصصون الذين عاينوا تلك القذائف، وتسببت في تأزيم الموقف عليه وعلى حكومته.
ورغم تصريحات وخطب الجمعة التي اعتاد العراقيون أن يسمعوها كلسان حال المرجعية في كل يوم جمعة فإنها اليوم أكدت عدم قناعتها بردود فعل الحكومة، وطالبتها بحسم ملفات القتل وإحالة الجناة بلا تسويف ومماطلة عاينتها خلال الأربعين يوماً الفائتة، لكن محتجي التحرير الذين سارعوا بنقد خطابها التي أوردت فيه بأن “التظاهرات دخل عليها عاملٌ خارجيٌّ”، ودعت إلى سلمية التظاهرات التي هي أصلاً متحققة في سلوك المتظاهرين السلمي، وتحويلهم ساحات الاحتجاجات إلى ورش عمل لصناعة مستقبل عراقي جديد دون أن تطالب المرجعية بإقالة حكومة عبد المهدي التي تورّطت بإراقة دماء أكثر من 300 قتيل و14 ألف جريح، مما يزيد من التهاب الشارع والتلويح بعصيان مدني وحبس أجهزة الحكومة في مقراتها، كما حدث في مدينة الناصرية جنوبي العراق.
اقرأ المزيد
ليس لدى عادل عبد المهدي من يفاوضه … هل تلقى رسالة المحتجين؟
برهم صالح على خط الأزمة… هل يصلح الرئيس ما أفسد الدهر؟
لقد وصل حنق المتظاهرين وغضبهم إلى أقصاه وهم يشعلون الشموع كل مساء في توديع كوكبة أخرى من زملائهم في ساحات التظاهر، ويرون دماءً غزيرة تسيل. السؤال الكبير الذي يطرحه المتظاهرون ويتمثّل بموقف المرجعية الذي يبدو غير حاسم إزاء سلطة تنتهك كل هذه المحرمات دون رادع أخلاقي وقانوني دانته المنظمات الدولية، فهي ما زالت في إطار حثّها على احترام مبدأ التظاهر والاحتجاج السلمي في وقت عدّ بعض المراقبين خطابها الأخير داعماً للشارع ومع مطالب المتظاهرين، وعززتها بـ”وجوب ملاحقة المتسببين بقتل المتظاهرين”، وهي أشبه بفتوى الجهاد الكفائي ضد “داعش”، كما وصفه بعض الإعلاميين في بغداد.
وفي وصفها الاحتجاجات بأنها (مطالبة بالإصلاح في البلاد تجلّى فيها كثير من الصور المشرقة التي تعبر عن محاميد خصال العراقيين، وما يتحلّون به من شجاعة وإيثار وصبر وثبات)، ملخصة مطالبها للقوى السياسية بثلاث نقاط رئيسية:
(أمامها فرصة فريدة للاستجابة لمطلب المواطنين وفق خارطة طريق يُتفق عليها، تنفذ في مدة زمنية محددة، فتضم حداً لحقبة طويلة من الفساد والمحاصصة المقيتة وغياب العدالة الاجتماعية، ولا يجوز المماطلة والتسويف في هذا المجال)، وما وصفته بـ(سلميّة الاحتجاجات بمختلف أشكالها، وعلى القوات الأمنية تجنّب العنف)، مؤكدة أن المشاركين في الاحتجاجات يراعون سلميتها، وأن التظاهر السلمي حقٌ لكل عراقي يعبر به عن رأيه ويطالب بحقه.
لكن، خطاب المرجعية اتهم من سمَّاهم (أطرافاً وجهات خارجية كان لها في العقود الماضية دور بارز فيما أصاب العراق من أذى، قد تسعى لاستغلال الحركة الاحتجاجية الجارية اليوم لتحقيق بعض أهدافها) على حد قولها اليوم.
إن هذا الخطاب الجديد للمرجعية أثار كثيراً من الأسئلة لدى الرأي العام العراقي الذي يتعاطف ويساند الاحتجاجات، ويقدّم كل ما يقدر عليه لاستمرارها دون تراجع، بل تكبر سعتها وتزداد ضراوة، حين تفتقد لحسم الصراع لصالح الشعب والانتصار إلى قضيته العادلة التي تتلخص في: إقالة هذه الحكومة التي قتلت وجرحت الآلاف من المدنيين العزّل وسلبتهم أرواحهم، وكذلك استمرارها على محاصصة المناصب وتوزيع المنح والأموال للموالين لنهج الأحزاب التي تحتمي بالمظلة الإيرانية التي تطلق النار بقرارات يشكك المتظاهرون أنها صادرة عن ضمير عراقي وطني.
إن سلوك الحكومة وتأسياستها الحزبية والسياسية المكونة قرارها يكشف علناً عن أن الهدف الرئيس من استمرار وجودها في الحكم هو الهيمنة المطلقة على القرار السياسي، وأنها لا تسمع إلى صوت الشعب الذي لا تعرف أنه مصدر السلطات في النظام الديموقراطي الذي تتشدق به، في وقت أنها ترتكب أقسى ديكتاتورية السلطة، كما يصفها مئات الكتّاب والمثقفين الذين يراقبون المشهد العام لمسرح القتل المنهجي، وسلوكها القمعي، ويتجهزون لمحاكمة أطرافها في المحاكم الدولية المختصة، وبذلك تخسر شرعية الحكم وشرعية السلطة، وتنتفي عنها كونها جاءت لنصرة ما تسميه (مظلومية الشعب).
فما من نظامٍ في التاريخ ظل صامداً وهو يضرب شعبه ويقتل معارضيه إن آجلاً أو عاجلاً، ومهما كان شكل وقوة مرجعيته الدينية والسياسية فلا قيمة للحكم حين لا يحافظ على دماء المدنيين العزل.