تطلق القوى الأمنية العراقية والميليشيات الموالية لإيران النار على حشود من المحتجين في محاولة لإخراجهم من وسط بغداد ووضع حدٍ لستة أسابيع من التظاهرات التي بلغت مواجهتها للنظام السياسي حداً غير مسبوق منذ الإطاحة بصدام حسين في 2003.
واستعادت الشرطة يوم السبت السيطرة على ثلاثة جسور على نهر الفرات تؤدي إلى “المنطقة الخضراء” المحصّنة وتطوّق “ساحة التحرير”، حيث تتراكم الاحتجاجات.
وفي شارع الرشيد القريب من الساحة، أضرمت الشرطة النيران في الخيم التي نصبها أطباء متطوعون من أجل معالجة الجرحى من المحتجّين.
وأسفرت الإشتباكات الأخيرة عن مقتل 6 أشخاص على الأقل أصيب أربعة منهم بالرّصاص واثنان بقنابل مسيلة للدموع ثقيلة الوزن أُطلقت مباشرة على رؤوس المحتجين أو على أجسادهم، بحسب “منظمة العفو الدولية”.
وتورد المنظمة إنّ 264 شخصاً ممن شاركوا في التظاهرات منذ 1 أكتوبر (تشرين الأول) قد لقوا حتفهم، بينما تشير معلومات “المفوضية العليا لحقوق الإنسان” في العراق إلى سقوط 301 قتيل و15 ألف جريح.
وتشكّل هذه الاحتجاجات ومحاولة الحكومة الوحشيّة فضّها، أكبر تهديد لسلطة المؤسسة السياسية العراقية منذ زحف داعش على بغداد في 2014. في المقابل، يشكّل الوضع القائم خطراً أكبر [على الحكومة] من نواحٍ عدة، لأن داعش كانت تمثّل خطراً وجودياً على الأغلبية الشيعية التي لم تجد بداً من دعم النخبة الحاكمة على الرغم من كل جشعها وعدم كفاءتها في الحكم.
ويحاكي قتل هذه الأعداد الكبيرة من المتظاهرين الأسلوب الذي اتّبعه الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي في 2013 أثناء قمع التظاهرات المناوئة لانقلابه العسكري على الحكم وإطاحته بالحكومة المنتخبة.
وفي المقابل، لم يُستخدم هذا الرد العنيف في قمع التظاهرات التي عمّت شوارع بغداد في العام 2016، حين اجتاح المتظاهرون “المنطقة الخضراء”، ولا في سحق تلك التي اندلعت في البصرة في العام 2018 حين أُحرقت مكاتب الحكومة والأحزاب.
في المقابل، شهدت فترة الشهر والنصف الأخيرة استخداماً متكرراً لقناصة أطلقوا النيران بشكل عشوائي على التظاهرات أو استهدفوا قادة التظاهرات المحليين. ومن يقف وراء عمليات القتل قد يكونون أفراداً ينتمون إلى القوى الأمنية الحكومية الشديدة الانقسام وبعض فصائل ميليشيات الحشد الشعبي المعروفة بولائها لإيران.
وفي ذلك الصدد، تتجسّد الجهة المسؤولة عن التخطيط لحملة قمع التظاهرات باستخدام القوة، في القيادة الإيرانية وتحديداً الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني” والمسؤول عن السياسة الإيرانية الإقليمية.
من ناحية اخرى، ما زال غامضاً سبب لجوء الجنرال قاسم سليماني إلى هذا الأسلوب بما أنّ التظاهرة الأولى يوم 1 أكتوبر في “ساحة التحرير” كانت صغيرة الحجم. وفشلت المنظمات غير الحكومية التي نظّمتها [التظاهرة] على مدار أشهر، في حشد أعداد كبيرة من الناس.
وفي المقابل، تحوّلت تلك التجمعات الصغيرة التي لم يشارك فيها الكثيرون، تظاهرات حاشدة أشبه بالإنتفاضة الشعبية بسبب تبني السلطات سياسة غير مسبوقة “بإطلاق النار بنيّة القتل”.
خلال الأيام الأولىى من التظاهرات، أخبر منظموها “الإندبندنت” عن ذهولهم إزاء ما حدث في بادئ الأمر، وميلهم بداية إلى الإعتقاد بأنّ العنف الذي وقع في اليوم الأول وذهب ضحيته 10 قتلى على الأقل، هو على الأرجح ردة فعل مبالغ بها ولن تتكرر. لكن قتل المتظاهرين تواصل على الرغم من نتائجه العكسية.
في اليوم التالي لموجة الإغتيالات الأولى، احتشدت حول المنطقة مجموعات من المتظاهرين الشباب الذين لم يبد عليهم الخوف إطلاقاً. وصعّدت السلطات الأزمة عبر إعلانها حظر التجوّل لمدة 24 ساعة وإغلاقها شبكة الإنترنت كعقاب جماعي لسبعة مليون شخص يقطنون بغداد في خطوة زادت من دعم الناس للمتظاهرين.
إستراتيجية طهران في الرد على واشنطن.. الحشد الشعبي في صف الحرس الثوري
وفي الوقت ذاته، أرسلتْ فرق الميليشيات التي تجاهر بولائها لإيران عناصرها المتشحين بالسواد إلى قنوات التلفزيون التي غطّت التظاهرات من أجل تحطيم أجهزتها واستديوهاتها. كما اعتدت العناصر على المتظاهرين المصابين داخل المستشفيات واختطفت وهددت الصحافيين والأطباء وكل شخص يدعم التظاهرات.
من غير المرجّح أن تكون هذه الخطوات جزءًا من خطة جاهزة حضّرتها الميليشيات الموالية لإيران سابقاً من تلقاء نفسها.
وقبل ذلك بأيام، تحدّثت “الإندبندنت” إلى عدد من قادة هذه العناصر الذين تبيّن أنّ مجموعاتهم أوفدت قناصة لإطلاق النار على التظاهرات في الشوارع.
ومع أنهم صرّحوا لاحقاً أنهم اكتشفوا منذ زمن بعيد وجود مؤامرة خفية للولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والإمارات لاستغلال التظاهرات من أجل الإطاحة بالنظام السياسي في العراق، لم يقولوا شيئاً حول هذا الموضوع خلال المقابلة. وذكر قيس الخزعلي زعيم فصيل الميليشيات القوي “عصائب أهل الحق”، إن “إيران تريد حلاً (في المواجهة الإيرانية الأميركية) لكنها لا تستطيع أن تقول ذلك بنفسها”. وقلّل من إمكانية نشوب حرب بين الولايات المتحدة وإيران.
وفي مقابلة منفصلة، أورد زعيم “كتائب سيد الشهداء” أبو آلاء الولائي إن أكثر ما يقلقه يتمثّل في الهجوم الإسرائيلي بطائرة دون طيّار على مستودع أسلحة داخل إحدى قواعده في ضواحي بغداد.
من ناحية ثانية، تشير السرعة والتناسق في ردة فعل مجموعات الميليشيات الموالية لإيران، أو ردة فعلها المبالغ فيها، على التظاهرات إلى وجود خطة طوارئ مفصّلة.
وفي هذا الإطار، يلفت أحد المعلّقين العراقيين إلى أنّ “الإيرانيين لديهم خطة دائماً”.
ولم تتصرف الميليشيات وحدها. إذ لا تفصل حدود واضحة المعالم بين هذه الميليشيات والأجهزة الأمنية الحكومية. ربّما تصل أعداد عناصر هذه الميليشيات إلى 85 ألف شخص يقبضون رواتبهم من الحكومة العراقية ويترأسهم فالح الفياض، مستشار الأمن القومي في الحكومة.
ويجري اختيار وزير الداخلية دائماً من صفوف “منظمة بدر” المدعومة من إيران. ومثلاً، يرد دائماً إن “قسم الاستجابة للطوارئ” في الوزارة قد أرسل القناصة لإطلاق النار على المتظاهرين. وفي الأسابيع التي تلت مجابهة المسيرة السلمية الأولى بالعنف، تصاعدت حدّة القمع في بغداد وجنوبي العراق إجمالاً.
وفي أحد تلك الأيام، اغتال القنّاصة 18 شخصاً في مدينة كربلاء الشيعية المقدّسة. واعتُقل الناجون على حواجز التفتيش التي وُضعت بغتة بينما كانوا يحاولون الهروب عبر الأزقّة. كذلك وُضع جهاز قمع كامل يُجري أعمال الخطف والاخفاء القسري والتهويل، ومن غير المحتمل أن تتوقف هذه الممارسات. وتزيد سطوة وهيمنة الشخصيات والمؤسسات الموالية لإيران وللوضع الراهن، داخل النظام السياسي العراقي.
وفي المقابل يلتزم منتقدو الوضع الراهن الصمت، ومنهم العلّامة الشعبي القومي مقتدى الصدر الذي يعتبر ائتلافه أكبر تجمّع في البرلمان. ودعا آية الله علي السيستاني يوم الجمعة الفائت القوى الأمنية إلى الإحجام عن استخدام “العنف المفرط” لكن لا يبدو أنّ تصريحه ترك أثراً.
كما جعلت الأزمة عادل عبد المهدي الذي يشغل منصب رئيس الوزراء منذ عام يبدو واهناً. ومن الواضح أنّ الطبقة السياسية العراقية قررت مجتمعة قمع التظاهرات حفاظاً على مصالحها.
وكخلاصة، يُشبه المتظاهرون الذين يجوبون الشوارع الطلاب الفرنسيين في أحداث العام 1968 في فرنسا، لجهة تطرّف مطالبهم وعدم وضوحهم إزاء طريقة تنفيذ هذه المطالب. وكذلك تظهر عدم قدرتهم على التعبير عن البديل الذي يريدونه أن يحلّ مكان الحكومة الحالية الفاسدة وغير الفعالة. في المقابل، يغرق المسؤولون عن القمع في الدم إلى درجة تجعل تراجعهم أمراً مستحيلاً، كما أنهم لا يظهرون نية في فعل ذلك عموماً.