إياد العناز
لا يمكن لإيران أن تستبعد ما حصل لها في سنة 2024، ولا أن تغادر ذاكرتها ما حل بها، وتقف حائرة موجوعة عما جرى لمشروعها السياسي في التمدد والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، أحداث جسيمة ومتغيرات متلاحقة وسياسات ميدانية تنبئ بتطورات كبيرة في المشهد السياسي العام للمنطقة بكل جوانبها واوضاعها وما ستؤول إليه نتائج المتغيرات السياسية فيها.
أن لإيران توجهات معروفة وأهداف معلنة وغاياته تسعى لها، احكمها وثبت ركائزها وأسس لها الدستور الإيراني الذي وضعته القيادة الإيرانية بعد مجئ الخميني والتغير الذي حدث في شباط 1979بسقوط الشاه،واعتمد في مبادئه وخطوطه العريضة على مبدأ تصدير ( الثورة الإيرانية) ونصرة المظلومين والدفاع عن حقوقهم والتزام أهدافهم، وهو ما يعني في العلاقات الدولية التدخل في الشؤون الداخلية للانظمةالسياسية ودول العالم وهذا ما يخالف قواعد القانون الدولي الذي تحتكم إليه دول العالم في علاقتها الدبلوماسية والسياسية ومراعاة مصالح شعوبها والتمسك باستقلالها السياسي والداعم له الاستقلال الاقتصادي.
جاء المشروع الإيراني بمفاهيم وأدوات تبتعد كثيرًا عن مفهوم العلاقات الطبيعية والمصالح المشتركة بين بلدان العالم، وأمتدت وسائل المشروع إلى تشكيل محاور وقواعد وفصائل مسلحة وميليشيات مقاتلة تم اعدادها ذهنيًا وسياسيًا وفكريًا لتكون الأدوات الفاعلة في تنفيذ أهداف المشروع الإيراني عبر الإدارة العسكرية والأمنية للقيادات العليا في فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني.
واتبعت إيران سياسات عديدة في تحقيق أهدافها ومنها استغلال الفرص السياسية التي تحيط بالمنطقة أو المتغيرات التي تحدث فيها وتسخيرها لمنفعتها وتحقيق مكاسبها في الميدان، وهذا ما حصل في العراق بعد الغزو الأمريكي الذي حدث في التاسع من نيسان 2003 وما تلاه من أحداث ونتائج انعكست سلبيًا على طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عانى منها أبناء الشعب العراقي، والتي كانت فرصة ذهبية تمكن فيها النظام الإيراني ومؤسساته الأمنية والاستخبارية من اعتماد العراق ساحة للانطلاق نحو عواصم الأقطار العربية ومرتكزًا مهمًا لإعداد برامجه وتسويق أدواته ودعم فصائله ومليشياته المسلحة.
ثم تقدم باتجاه الميدان السوري وعمل على توسيع تأثيراته بعد عمليات التواصل التي حدثت على الأرض بحكم الامتداد الجغرافي والحدود المشتركة بين العراق وسوريا والتي سبق لإيران وأن اقامت علاقات متينة ومصالح متبادلة مع النظام السوري في الفترة السياسية التي حكم فيها حافظ الأسد البلاد وتوطدت بفعل الوقوف المباشر مع إيران في حربها مع العراق في عقد الثمانينيات من القرن الماضي،لتستمر عملية النفوذ والهيمنة باتجاه الأراضي اللبنانية والاهتمام الواسع بالتنظيمات والهياكل السياسية والعسكرية لحزب الله اللبناني الذي يشكل الأرضية الرئيسية ودرة التاج الإيراني، لتشتبك جميع المحاور حول تنفيذ الغاية الكبرى لإيران في توسيع مدارك تأثيرها وانتشارها في ثلاث عواصم عربية رئيسية( بغداد ودمشق ولبنان) ذات البعد الحيوي والاستراتيجية، وعبر أفكار سياسية وخطط عسكرية وبرامج أمنية وغاياته اقتصادية مثلت المشروع الإيراني في رؤيته لكيفية أحكام سيطرته على المنطقة العربية وتأسيسه لفكرة ( الهلال الإيراني) الذي يمتد من إيران مرورًا بالعراق ثم الأراضي السورية وصولاً لسواحل البحر الأبيض المتوسط في لبنان وأمتد جنوبًا ليكتمل الهلال الذي اراده بدرًا بدعمه لفصائل ومقاتلي الحوثيين في سيطرتهم على مدينة صنعاء في اليمن السعيد لتكون العاصمة العربية الرابعة والتي اضحت تمثل الامتداد الإيراني حيث الممرات والمضايق الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن.
وعبر عقود من الزمن امتدت لاربعين سنة حققت فيه إيران العديد من أهدافها عبر تخللها في العراق وتوسع نشاطها الأمني والاستخباري فيه وتعميق علاقتها الاقتصادية وتبادلاتها التجارية وتدخلاتها في الأوضاع السياسية وتشكيل الحكومات العراقية التي تعاقبت بعد الاحتلال الأمريكي، مما أدى إلى توسع عملية نفوذها والتي كان يقود عملياتها القائد السابق لفيلق القدس الإيراني قاسم سليماني الذي قتل في الثالث من كانون الثاني 2020 باستهداف أمريكي في الأراضي العراقية، ثم اتساع نطاق تحالفها الاستراتيجي مع النظام السوري بالدعم العسكري والاقتصادي الذي قدمته له بعد الثورة السورية التي انطلقت في الخامس عشر من آذار 2011 في معظم المدن الرئيسية وتعاظم الاحتجاجات التظاهرات الشعبية المطالبة بإسقاط النظام ونشاط المعارضة السورية في عملياتها العسكرية وسيطرتها على العديد من المدن بحيث أصبحت قريبة من وسط العاصمة ( دمشق)، ليأتي الدعم عبر مستشاري فيلق القدس والحرس الثوري بتنظيم معسكرات لتدريب وارسال المقاتلين من المليشيات الافغانية والباكستانية ومشاركة عدد من المليشيات العراقية للقتال والدفاع عن بقاء نظام بشار الأسد ومواجهة مقاتلي المعارضة السورية، ثم جاءت عملية الإسناد الأوسع عندما وجهت إيران قيادة حزب الله اللبناني بضرورة القتال داخل الأراضي السورية والدفع باتجاه تحقيق الغايات الأساسية في استمرار النهج والسلوك الإيراني في الحفاظ على حليف مهم ونظام سياسي يدور في فلكها وأحد اعتمدتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
استمرت إيران في سياستها التوسعية وتحالفاتها الميدانية وبسط نفوذها وتمددها وهيمنتها على عدد من العواصم العربية، وبدأت في رسم ملامح سياستها الإقليمية والدولية عبر التفاوض والحوار في مجمل الأمور المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني عبر الجلسات التي عقد في العاصمة النمساوية ( فيينا) وما تلاها من لقاءات غير مباشرة مع ممثلين عن الإدارة الأمريكية في العواصم الغربية والعربية، واستغلال حالة المتغيرات السياسية التي مرت بها المنطقة العربية وطبيعة التأثير الإيراني فيها عبر تواجده في الساحات التي شهدت هذه الأوضاع وأهمها الساحتين العراقية اللبنانية لامتلاكها أدوات مهمة ووكلاء وحلفاء داعمين لمشروعها في المنطقة، وبسبب تشابك المصالح الغربية والامريكية وقربها من مناطق التأثير الإيراني التي تشترك فيه معها، فقد سعت القيادة الإيرانية إلى استغلال هذه الفرص الميدانية في دعم مفاوضاتها وجعلها أوراق سياسية ضاغطة استخدمتها في مفاوضات البرنامج النووي عبر مجموعة (5+1) ثم الحوارات غير المباشرة التي جرت في العاصمة العُمانية (مسقط) في تخفيف العقوبات الاقتصادية نحوها وخاصة في إدارة الرئيس جو بايدن التي ساهمت في إطلاق (6) مليار دولار من الأموال المجمدة في صفقة ( إطلاق سراح المواطنين الامريكان) من أصول إيرانية، ثم السماح للعراق باستمرار استيراد الغاز الإيراني استثناءًا من العقوبات الاقتصادية الأمريكية والذي يُدر للميزانية الإيرانية مبلغ (7) مليار دولار، ثم السماح لها بالعمل ضمن برنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة والتغاضي عن مشروعها السياسي في التمدد والهيمنة بمنطقة الشرق الأوسط، مقابل عمليات التسوية والتخادم السياسي في الميدان العراقي والعمل على سياسة التوافق والقبول في إعداد ورقة عمل لاتفاق جديد يخص البرنامج النووي الإيراني.
وجاءت الأحداث والمواجهات التي حصلت في الأراضي الفلسطينية في السابع من تشرين الأول 2023 لتشكل منعطفًا مهمًا ومسارًا جديدًا في طبيعة الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية، وتبدأ المساومات الإيرانية لتحقيق أكبر مقدار من المنافع والمكاسب السياسية في قبولها لسياسة التهدئة وعدم التصعيد ومنع امتدادات ساحات المواجهة تجاه العمق الإسرائيلي خلافًا لما أعلنته من دفع وإسناد لحقوق الشعب الفلسطيني في تحرير أراضيه ومقدساته الشريفة، وهو الخطاب الشعبي الذي حاولت فيه التأثير على عواطف العديد من أبناء الأمة العربية باسنادها للقضية المركزية ( فلسطين) ولكنها فشلت في محاولتها وانكشفت حقيقة أهدافها وتسويقها لغاياتها على حساب التضحيات الكبيرة التي قدمها أبناء الشعب الفلسطيني في مواجهاته المستمرة مع القوات الإسرائيلية.
وكانت بداية تباشير الانكسار الإيراني الأحداث التي شهدتها مناطق الجنوب اللبناني واستهداف القيادات الرئيسية والكوادر السياسية والأمنية والعسكرية في الهيكلية التنظيمية والتعبوية لحزب الله اللبناني، ثم الانهيار التام للنظام السوري وسقوطه السياسي وفرار بشار الأسد إلى حلفائه الروس، وجاءت هذه الأحداث في متوالية سياسية اقضت مضاجع الادارات والمؤسسات الأمنية والعسكرية في فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني واشعلت حالة من الصراع والاختلاف بينهم حول طبيعة الإجراءات والتوجيهات التي قامت بها القيادة الإيرانية وكيفية تعاملها مع التطور المتلاحق في أهم ميادين ونفوذ المشروع الإيراني واصيبت بحالة من الانهيار السياسي الذي تبعه تناقض في التصريحات وابداء الحجج حول تفسير ما حدث من متغيرات في الميدان السوري وما قبله على الأراضي اللبنانية في مناطقها الجنوبية.
بدأت عملية الصراع تأخذ أشكالًا عديدة وبانماط مختلفة، انتقد فيها أنصار التيار الإصلاحي السياسات الفاشلة التي اعتمدها النظام الإيراني في سوريا وعدم سعيه لإيجاد الحلول الجذرية التي كان من الممكن أن تساهم في التخفيف من وطأة ما حدث بغياب حليف مهم في بلاد الشام رغم جميع الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية التي قدمت له وبمبالغ كبيرة وصلت إلى (50) مليار ارهقت الميزانية الإيرانية وأثرت على الحالة المعاشية والضائقة الاقتصادية التي كان يعاني منها المواطنين الإيرانيين، واثبتت فشل سياسة الصبر الاستراتيجي التي اتبعها النظام في مواجهته لتطور الأحداث في لبنان وسوريا، ورغم الدعم الذي تتلقاه القيادات الميدانية العسكرية والأمنية الإيرانية من التيار المتشدد إلا أنهم لم يتمكنوا من أخفاء امتعاضهم من الإجراءات والسياسات الميدانية التي اتبعها أركان النظام في محاولتهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذهم من بقايا زوايا المشروع الإيراني، وفشله في توجيه وكلائه من الفصائل المسلحة والمليشيات المقاتلة في تصويب فعالياتهم بعد انهيار معنوياتهم وأفول تأثيرهم في الميدان السوري وعدم قدرتهم على مساندة مقاتلي حزب الله اللبناني.
وظهرت معالم الرفض الرسمي بعد الشعبي في عدة جوانب للهدر المالي الذي مارسه النظام الإيراني في دعمه المتواصل لحلفائه الاستراتيجين ووكلائه المعتمدين دون جدوى أو فائدة في مواجهة موجة الانهيار السريع لهم في المنطقة، وأصبح من الصعب استمرار حالة الدعم بعد غلق الممرات الرئيسية عبر الحدود العراقية السورية وخسارة إيران الجسر الحيوي السوري الذي كانت تعبر من خلاله جميع الإمدادات والمساعدات لمليشياته ومقاتلي حزب الله، وأصبح النظام الإيراني عاجز عن القيام بهذه المهام بدعم وكلائه بعد أن كان يستخدمهم في القتال والدفاع عن أهداف مشروعه السياسي وغاياته في النفوذ والهيمنة ولكنه ليس على استعداد للتضحية بقواته أو جنوده في ميادين أخرى خارج الحدود الجغرافية للأراضي الإيرانية، وارتضى لنفسه أن يقبل بالهدنة ووقف إطلاق النار الذي وقعه حزب الله اللبناني مع القوات الإسرائيلية والتخلي عن مبدأ ( وحدة الساحات) الذي استخدمه شعارًا لتحقيق مصالحه ومنافعه في المنطقة، كا ادرك أ حقيقة الخسارة الفاتحة بغياب حليف عربي استراتيجي لهم هو النظام السوري الأكثر اهمية في مناطق نفوذهم بالأرض العربية.
أصبحت إيران لا تتمكن من دفع التكلفة المالية والعسكرية التي كانت تنفقها على ادواتها في لبنان وسوريا قبل سقوط نظام الأسد واشتداد المواجهات الشعبية ضده وايقينت أنها لا تتمكن من الدفاع عنه لحجم الممارسات والأساليب القمعية التي اتبعها رموز النظام واختلال التوازن الاقتصادي في البلاد وارتفاع نسبة البطالة والتضخم ووصول 75٪ من أبناء الشعب السوري لحافة الفقر وانعدام الخدمات الأساسية، فكان الانهيار التام للمؤسسات الأمنية والعسكرية التابعة لنظام الأسد وانهيار معنويات عناصره وعدم قدرة المليشيات الإيرانية والحرس الثوري من تقديم أي عون أو مواجهة مباشرة توقف زخم المعارضة السورية التي تمكنت من دخول العاصمة دمشق فجر يوم الثامن من كانون الأول 2024.
ثم تلت هذه الأحداث ولمواجهة حالة الصراع والخلاف في أروقة الحكم الإيراني ومؤسساته الأمنية حول ما آلت إليه نتائج التغيير السياسي في سوريا، أن عملت إيران على اعتماد مفهوم سياسة ( تغيير الاستراتيجية) الذي أقرته القيادة الإيرانية وانكرت فيه عدم وجود فصائل وميليشيات تعمل معها أو لصالح مشروعها التوسعي، وتناسى قيادي النظام أنهم كانوا يعتبرون العواصم العربية ( بغداد ودمشق بيروت صنعاء) جزءًا حيويًا من هيمنتهم وتمددهم في الوطن العربي، بل إن أمن دمشق هم امتداد للأمن القومي الإيراني.
أن ما حدث في الأشهر الأخيرة من سنة 2024 أصاب المشروع الإيراني بكارثة كبيرة وانهيار سياسي لمرتكزاته وأسسه الأمنية ومنافعه الاقتصادية بعد أن عملت القيادات الميدانية للحرس الثوري وفيلق القدس على تحديد الأولويات وإعداد البرامج والخطط الأمنية والمساهمة في بسط نفوذها الميداني، إلا أن جميع هذه الجهود لم تُمكن طهران من إيقاف السقوط السياسي للأسد وغياب القيادات العسكرية والسياسية لحزب الله اللبناني درة مشروعها ، وبقيت تعاين مديات الضياع والانهيار والانكسار الذي أصاب فصائلها القتالية ووكلائها واعمدة ادواتها، وبدأت تدرك أن عليها أن تتعامل بواقعية وفهم واضح لمقتضيات المرحلة القادمة وملامح التغيير السياسي الذي سيكون الواجهة الميدانية التي ستؤطر مفاعيل السنوات اللاحقة في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة