منذ الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي والاحتجاجات العراقية في تصاعد مستمر، خلف أكثر من 300 قتيل، وما يزيد على 14 ألف جريح ، في سابقة لافتة وصفها بعض العراقيين بأنها انتفاضة شعبية عارمة، لم يسبق لها مثيل في التاريخ العراقي الحديث، ببصمة مميزة سجلها المتظاهرون، وجلّهم من الشباب الذي تقع أعمارهم بين ( 15-30) سنة، وهم يواجهون حكومة استخدمت العنف المفرط إزاءهم، نفذته فصائل من الميليشيات حاولت أن تقمع جيلا جديدا يواجهون مصيرهم بصدور عارية وبأعلام عراقية ترفرف فوق رؤوسهم.
دخلت الحكومة وأجهزتها المختلفة في إنذار مستمر منذ اليوم الأول للتظاهرات، بعد أن قسّمت المجتمع بين سلطة تملك السلاح والمال وتدافع عن عملية سياسية تعود عليها بالمليارات والنفوذ وبين محتجين لا يقبلون وجودها ولا يستسيغون فسادها الذي خلف المآسي، على حد وصف المحتجين أنفسهم.
عمدت السلطة إلى منع المتظاهرين بإطلاق النار، وضرب قذائف الغازات المسيلة للدموع، التي تخترق جماجم الشباب المسالمين، ونراها من خلال ما يبث عبر السوشيال ميديا، وحولت مشاهد التظاهرات إلى مسرح للقتل على الهواء مباشرة، وكأن الشارع العراقي تحول إلى دراما حية لـ”سينما الواقع” لكثرة المشاهد المتدفقة على وسائط التواصل التي فضحت أساليب السلطات التي قنصت ميليشياتها أكثر من 150 شابا بضربات متعمدة قاتلة، نفذها قناصون محترفون في الأسبوع الأول من الانتفاضة، حتى أن بعض العراقيين لم يتوانوا القول إن الحرب العراقية -الإيرانية تجري في شوارع بغداد، وعادت لمسرح عمليات كر وفر بين المسلحين بخبرة الحرس الثوري وقياداته الميدانية، في وقت اختفى الجيش العراقي النظامي، وعزلت بعض ألويته وسحبت أسلحتها، كما تؤكد مصادر عليمة في بغداد، وأبعد عن الخدمة الفعلية خشية قيامه بانقلاب تأثراً بالمآسي التي يتسب فيها مطلقو النار من الميليشيات و”قوات الدمج” التي فرضها الجنرال سليماني وعقد ألويتها بُعيد انسحاب القوات الأميركية من العراق، ويتهمها ناشطون بأنها وراء شن الحرب على الشعب الأعزل الذي ما فتئ يودع شهداءه الملفوفين بالعلم العراقي وسط صراخ الأمهات وهوسات أبناء العشائر التي تمجد أفعال أبنائهم.
تحولت الاحتجاجات إلى تمزيق صور الرموز الدينية وحرق صورهم أمام الكاميرات في سابقة أحرجت القوى المؤيدة لإيران والموالية لمشروع ما يسمونه بـ”المقاومة” التي تريد أن تحول العراق إلى
“أرض جهاد” أخرى في مشروعها الإقليمي، الذي يمتد من العراق براً نحو سوريا ولبنان، ويطوق دول الخليج التي ترفض مشروعها هذا في المنطقة.
ويأتي الحراك الشعبي العراقي تعبيرا عن رفض معلن لتلك التبعية والتأكيد على عروبة العراق ووطنية شعبه، التي كانت قاسية ومفاجأة للقوى الأخرى، حين كشفت أن شيعة العراق وعمق انتمائهم لأمتهم، برفض الدعوات الطائفية التي روجتها القوى الحزبية والسياسية الموالية للمشروع الإيراني التي وجُهت بشعار “نريد وطنا”، و”نازل أخذ حقي”، و”لبيك يا عراق”، ورغم بساطة هذه الشعارات في التظاهر فإنها حظيت بتأييد ملايين العراقيين في العاصمة والمحافظات.
أمام مشهد المواجهة بين الشعب المتمثل في المتظاهرين السلميين من جهة، وإصرار والحكومة والأحزاب الدينية المساندة لها من جهة ثانية، والأموال الموظفة سياسيا التي تُشتري فيها المواقف الإقليمية والدولية، فإن الأمور تزداد تعقيداً بين أطراف تمد الأزمة وتصعد وتديم أوارها، في مقدمها الحكومة التي تسعى إلى مدّ الوقت والتسويف وعدم تقديم أي تنازلات جدية للمتظاهرين، وتستخدم القوة المفرطة تدعمها ألوية مسلحة تنضوي في الكيانات العسكرية المشاركة في قمع التظاهرات، وتمارس حرفة القتل مستخدمة أسلوب القنص والرمي الحي باتجاههم تدعمهم فصائل محترفة، يقول المتظاهرون إنهم من الحرس الثوري الإيراني حيث يعرضون هوياتهم بين الحين والآخر أمام الكاميرات، حين يعثرون عليها قرب ساحات التظاهر، أو يلقون القبض على عناصرها، في وقت تؤلب هذه الحالة المتظاهرين الذين أضحوا متيقنين بأن الذي يستهدفهم غير عراقيين، لا يتوانون من تأكيد ذلك أمام الإعلاميين الموجودين في ساحات الاعتصام بأن قاتلي زملائهم غير عراقيين، وهذا الموقف الحكومي المتشدد يذكر بسيناريو مواجهة الثورة السورية مع فارق نوعي أن الصراع (شيعي-شيعي) في الحالة العراقية.
مع هذا المشهد الدامي فإن السلطات العراقية، حكومة وبرلمانا، أبقت اجتماعاتها مفتوحة، في محاولة التغيير الشكلي بالتضحية الطفيفة ببعض رموزها وأطرها السائدة، التي كرست خلال الستة عشر عاما، التي ظنت خلالها أنها تملكت إرادة الشعب لكنها لم تعرف أنها إزاء شعب ذا أغلبية شبابية.
تبلورت قناعاته وذاكرته في عصر التنوير الإلكتروني، والانفتاح الاتصالي، وتميز تلقيه في عالم مفتوح لا تتمكن السلطات من تقييده، حتى وإن لجأت إلى سياسة قطع الإنترنت ووسائل التواصل كالجسور ومعابر المدن التي لا يسمح المجتمع المحلي والدولي الجديد من حجبها وإيقافها إلا في حال الإعلان عن الأحكام العرفية، في نظام يعلن إنه يؤمن بالديموقراطية لكنه ينتهج المنحى الديكتاتوري بهدف استمراره في السلطة، لكن تلك المحاولات وصفت بأنها لم تلامس أخطاء تأسيس تلك العملية السياسية وتراكم أخطائها، فقد لجأت إلى الحل الأمثل من خلال وعدها العمل بمبدأ الانتخاب المباشر في البرلمان؛ أي من دون القوائم الانتخابية السائدة حيث تذهب أصوات الناخبين إلى رؤساء تلك القوائم في المحصلات، وفق قانون “سانت ليغو” الذي اُعتمد في الانتخابات الماضية، ولا حاجة في الانتخاب المباشر للحد الأدنى أو ما يسمى بالعتبة الانتخابية، الذي عُد مجحفا للمرشحين، مع مقترح رفع نسبة التمثيل إلى 250 ألف مواطن لكل نائب برلماني منتخب لتقليل عدد المقاعد بشرط كشف الذمة المالية ومنع الفاسدين من الترشح!، فمن يصل للبرلمان هو صاحب أعلى الأصوات المباشرة.
هذا النظام المبني على اعتماد نظام الأغلبية الفردية الذي يلغي الحاجة إلى وجود مفوضية انتخابات أصلاً، ويقضي على المحاصصة السياسية التي تتمسك بها المكونات السياسية – السلطوية الثلاث، الشيعية والسنية والكردية، لفرض حالة ديكتاتورية الأغلبية على المشهد السياسي، التي فتحت منافذ للرشى والتزوير والتكتلات والولاءات الحزبية والمناطقية والمحاصصة الطائفية، على حساب الكفاءات والقدرات المجتمعية، وهذا السيناريو يحظى بالتأييد العام من جمهور المتظاهرين، لكن تناكفه بل ترفضه الأحزاب والقوى ذات المشروعات الكانتونية التي مازالت متحكمة في المشهد السياسي العراقي الحالي.
من جهتها خرجت رئاسة الجمهورية بمقترح آخر يبقي الحال على ما هو عليه مع إصلاحات شكلية، عُدت حزبية من وجهة نظر كثير من المراقبين، باعتماد دوائر انتخابية متعددة وقوائم مفتوحة ومنح الشباب فرصة للترشح من عمر 25 سنة فما فوق وتغيير المفوضية بأخرى جديدة، وقد وصفت هذه الإجراءات بمثابة مد ّحبل النجاة لسلطة تغرق كسفينة نخرها الفساد وتراكم أثقالها، فهي في وادٍ، والشارع في وادٍ آخر.
أما المرجعية الشيعية، التي تتخذ من النجف مقرا لها، حيث يقطن مرجعها الأكبر السيد السيستاني فإنها توكد منذ اليوم الأول للأزمة على “عدم استخدام العنف لأي سبب ومحاسبة المتسببين ومحاكمة الجناة الذين قتلوا المتظاهرين، ووقف الاعتقالات والخطف فوراً، وهي تبدي قلقها من جدية القوى السياسية الحاكمة حيال القيام بهذه الإصلاحات”، بل ذهبت بعيدا في المطالبة الفورية للمتظاهرين السلميين ألا يعودون لبيوتهم دون تحقيق مطالبهم المشروعة، وقد حان الوقت لتنفيذ السلطات العراقية ما يطلبه المتظاهرون، وأكدت أن العراق لا يمكن أن يكون ساحة للصراع بين البلدان، وهذا ما أكده السيد السيستاني الذي لا يقر بولاية الفقيه التي ينتهجه مرشد إيران.
في حين اكتفت بعثة الأمم المتحدة في العراق “يونامي” بالدعوة إلى “الحل السلمي وحرية التعبير في الرأي وفقا للدستور وضبط النفس في التعامل مع المظاهرات بما في ذلك عدم استخدام الذخيرة الحية وحظر الأسلحة الفتاكة، والدعوة للحفاظ على الممتلكات العامة، وإطلاق سراح كافة المتظاهرين والمحتجزين منذ الأول من أكتوبر، حال بدء الاحتجاجات، وحان الوقت لتنفيذ السلطات العراقية ما يطلبه المتظاهرون، وأن العراق لا يمكن أن يكون ساحة للصراع بين البلدان، دون تقديم رؤية حقيقية عن المتسببين بقتل الشباب المحتج، ومطالبة الحكومة بكشفهم ومحاكمتهم، أو إدانة عنف السلطة، وتحميلها مسؤولية فقدان عشرات الآلاف حياتهم، وتشويه أجسادهم بالرصاص الحي، أو القنابل المسيلة للدموع التي تسقط فوق رؤوسهم، لكن المتظاهرين يرون تقرير “يونامي” ضعيفا وغير منصف لأزمتهم، ولوحوا باتهامها بالانحياز ضدهم ورفع قضايا عليها.
ويبقى المنتفضون الطرف الأهم في هذه المعادلة، فإنهم وبعد أن أدركوا أنهم لا يحتجون على توفير قضايا إنسانية تلبي احتياجاتهم الأساسية فحسب، بل أدركوا أن الكارثة التي تحيطهم تكمن في أن يستمر النظام بتحويل مطالباتهم المشروعة إلى مجزرة في ميدان التحرير ببغداد والمحافظات من خلال منظومة أمنية أعلنت منع التظاهر وإبقاء الحال كما هو، وقامت باستهداف حياة الكثيرين منهم بالقتل والتعويق، دون أن يقوم عبد المهدي وفصائله المسلحة، بصفته القائد العام باطلاع الشعب على من قتل المتظاهرين، بل اكتفى بالنفي المستمر وتوجيه التهم إليهم ووصفهم بالمخربين الخارجين على القانون، مما أثار غضبهم عليه وعلى نظامه،
وسط استهجان الشارع ومعرفته من يقوم بذلك، في وقت أعلن الشباب أن دماء زملائهم لا تسقط بالتقادم، فالسلطة التي تزداد قسوة وتضيف أرقاما لأعداد القتلى، يصعب عليها التفاوض مع المحتجين الذين أعلنوا الاعتصام ورفعوا شعار “ارحل” بوجه رئيس الحكومة ونظامه أيضاً، وهذا يزيد الأمور تعقيدا بسلسلة خطابات وقيامه بتقسيم المتظاهرين لنوعين: قسم وصفه بريء ساحته وآخر مخرب لابد من معاقبته، وانتزع من القضاء قرارات غير دستورية تبيح حق اعتقال المتظاهرين وحبسهم. مما جعل المعتقلات مليئة بالمتظاهرين تحت تهم شتى جاهزة، وكان عليه أن يعي مقدماً كما نصحه متخصصون كفء، أن مطالب المتظاهرين ليست شكلية بل قضايا جوهرية خالصة تحاط بتحديات وطنية وسياسية واقتصادية كبرى، مع إدراك الشعب المنتفض بأن هناك أرقاماً محرجة للحكومة بينها ديون تبلغ أكثر من 134 مليار دولار وفق تقديرات البنك الدولي، وعجز مالي يقدر بـ100 مليار دولار، على حد تأكيد الباحث العراقي الدكتور غازي فيصل الذي يؤكد، “أن العراق يحتاج إلى إعادة بناء ما خلفته النزاعات منذ 2003 إلى أكثر من 400 مليار دولار، في بلد تبلغ فيه الميزانية التشغيلية أكثر من 44 مليار دولار لتغطية رواتب موظفين (بيروقراطيين) يقدرون بـ8 ملايين موظف، في مجتمع بلغت نسبة الفقر فيه 35% فقير، وفيه 6 ملايين يتيم، ومليوني أرملة، و8 ملايين أمي، يحتاجون إلى 15 ألف مدرسة جديدة، وهناك 7% يتعاطون المخدرات”.
ويذهب الدكتور فيصل بعيدا للقول بأن حكومة السيد عبد المهدي أبرمت عقوداً مع الشركات العالمية آخرها الصينية، بمبلغ 187 مليار لإنجاز 6 آلاف مشروع لكنها بدون رصيد، هذا وسواه الكثير يجعل مطالب المتظاهرين جدية وجذرية لمحاسبة القوى التي خلفت كل هذا الخراب المجتمعي والاقتصادي والسياسي، بعد أن احتكرت السلطة 16 عاما من دون رؤية وطنية أو اقتصادية، أو سياسية لبناء دولة مهمة مثل العراق، وهو لاعب رئيس في الشرق الأوسط بتاريخ حضاري تقوده سلطة لا تعرف أن تدير أزمة كي تتمكن من أن تدير دولة.