أخيراً؛ كشّرت أوروبا عن أنيابها في وجه إيران وعمدت، للمرة الأولى، إلى التهديد بنقل كامل الملف النووي الإيراني مجدداً إلى مجلس الأمن الدولي بالاستناد إلى الآليات المنصوص عليها التي يتضمنها؛ وأبرزها آلية «فضّ النزاعات» التي تعني، رغم تعقيدها، إمكانية إعادة فرض العقوبات الدولية السابقة كافة على طهران في حال لم تتراجع عن انتهاكاتها المتلاحقة لبنود الاتفاق.
وجاء التهديد الأوروبي على لسان وزراء خارجية الدول الثلاث الموقّعة على الاتفاق (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) إضافة إلى «وزيرة» الشؤون الخارجية الأوروبية فيديريكا موغيريني، عقب اجتماع عقد في باريس مساء أول من أمس، وصدر في نتيجته بيان قوي اللهجة يختلف عن البيانات السابقة «المائعة» التي أعقبت المراحل الثلاث الأولى من تخلي إيران التدريجي عن الاتفاق. لكن قيام طهران بإعادة تشغيل موقع «فُردو» لتخصيب اليورانيوم «كان بمثابة النقطة التي بها طفح كيل الأوروبيين» وفق توصيف مصدر أوروبي متابع للملف النووي.
أما الأسباب، وفق المصدر المذكور، فكثيرة؛ وأولها تخلي إيران عن بند واضح في الاتفاق ينص صراحة على تعطيل «فردو» وتحويله إلى مركز بحثي. وثانيها، موقعه الجغرافي بالغ التحصين والعصيّ على التدمير. وثالثها احتمال مدّه بأجهزة طرد مركزية من الجيل السادس من شأنها تسريع إنتاج كميات من اليورانيوم المخصب ورفع نسب التخصيب من مستواها الحالي (أقل من 5 في المائة) وربما الوصول بها إلى ما ادعته إيران من أنها قادرة على تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المائة. ورابعها، إشارة تقرير للوكالة الدولية للطاقة النووية إلى العثور على مواد نووية في موقع لم تعلنه السلطات الإيرانية وتجهله الوكالة. وبحسب الخبراء الفرنسيين، فإن الجهة القادرة على التخصيب بهذه النسبة، لا يستعصي عليها الوصول إلى نسبة 90 في المائة؛ وهي الضرورية لإنتاج القنبلة النووية.
حقيقة الأمر أن الأوروبيين وصلوا إلى قناعة مفادها بأن طهران «لا تعير بالاً» لتحذيراتهم المتلاحقة ولدعواتهم الملحة لكي تحترم بنود الاتفاق؛ لا بل أن تتراجع عن التجاوزات التي قامت بها؛ أكان ذلك لجهة حجم مخزونها من اليورانيوم المخصب، أو نسبة التخصيب، أو نصب أجهزة الطرد المركزي المتطورة، وأخيراً إعادة تشغيل «فردو».
وترجح المصادر الأوروبية أن طهران، انطلاقاً من وعيها بحرص الأوروبيين على ديمومة الاتفاق رغم خروج الولايات المتحدة الأميركية منه في مايو (أيار) من العام الماضي ثم فرضها عقوبات مالية واقتصادية وتجارية على طهران، راحت تعدّ أنهم «الحلقة الأضعف» التي يسهل بالتالي الضغط عليها؛ لا بل «ابتزازها».
وجاء «الابتزاز» على الطريقة التالية: «إما أن توفروا لي ما خسرته بسبب العقوبات، وإما سأضرب بالاتفاق عرض الحائط». والحال، أن الليونة الأوروبية كان مصدرها الأول توفير الوقت للوساطة الفرنسية التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون، والامتناع عن المواقف التي من شأنها إثارة طهران ودفعها إلى الخروج من الاتفاق.
والحال؛ أن الوساطة الفرنسية اليوم وصلت إلى طريق مسدودة رغم أن ماكرون ما زال ساعياً للاستمرار بها. والدليل على ذلك الاتصال الهاتفي الأخير بينه وبين الرئيس دونالد ترمب ليل أول من أمس.
ووصف ماكرون في تغريدة المحادثة الهاتفية بأنها كانت «ممتازة» وأنها تناولت سوريا وإيران والحلف الأطلسي، وتميزت بوجود «تقارب في كثير من وجهات النظر». وأشار ماكرون إلى اجتماع مع الرئيس الأميركي يسبق قمة الحلف الأطلسي بلندن في 4 ديسمبر (كانون الأول) المقبل. لكن ثمة قناعة راسخة بأن ما لم يقبل به الرئيس الأميركي (رفع جزئي مسبق للعقوبات عن طهران) في الأسابيع الماضية، فلن يقبل به غداً، وبالتالي فإن الجهود الدبلوماسية الفرنسية المدعومة أوروبياً ستراوح في مكانها.
يعبر البيان الأوروبي الرباعي عن «القلق العميق» إزاء معاودة نشاطات إيران التخصيبية في «فردو» الأمر الذي يعدّ «مخالفة صريحة» للاتفاق النووي و«تترتب عليه نتائج ربما تكون خطيرة» على منع انتشار السلاح النووي، كما أنه يمثل «تسريعاً يؤسف له» لتخلي إيران عن التزاماتها بموجب الاتفاق. ويدعو البيان إيران «إلى العودة دون تأخير» عن التدابير كافة المخالفة لنص الاتفاق والتي تحققت منها الوكالة الدولية وفق ما جاء في تقريرها الأخير. وتكررت هذه الدعوة في غالبية فقرات البيان، مما يدل على الأهمية التي يوليها إياها الموقعون على البيان.
ورغم ذلك، فإن الأوروبيين أكدوا مجدداً «عزمهم» على استمرار بذل الجهود لإنقاذ الاتفاق الذي «يخدم مصالح الجميع». وبموازاة ذلك، يحث البيان طهران على «التعاون الكامل» مع الوكالة الدولية الموكلة الإشراف على الأنشطة النووية الإيرانية، خصوصاً فيما يتعلق بـ«الضمانات العامة والبروتوكول الإضافي». وللتذكير، فإن «البروتوكول الإضافي» يمكّن مفتشي الوكالة من زيارة المواقع التي يرتؤون زيارتها وضمن مهل قصيرة.
والمقصود من هذه الفقرة التعبير عن «القلق الكبير» إزاء تأخر إيران في التعاون مع المفتشين وبشأن «الحادث» الذي طرأ مع إحدى المفتشات التي لم تكشف هويتها والتي سحبت منها طهران ترخيصها. ونوه البيان بـ«العمل الحيادي والمستقل» الذي تقوم به الوكالة وبالثقة الموضوعة بها.
بيد أن الفقرة الأهم في البيان هي ما قبل الأخيرة وتنص حرفياً على التالي: «إننا نعيد التأكيد على عزمنا النظر في كل الآليات التي يتضمنها اتفاق العمل الشامل (أي الاتفاق النووي) بما فيها الآليات الخاصة بفض النزاعات، وذلك من أجل إيجاد حلول للمسائل الخاصة بتنفيذ إيران لتعهداتها، ونحن، من أجل ذلك، على تواصل مع بقية الأطراف الموقّعة على الاتفاق». وسبق لمسؤولين إيرانيين أن نبهوا الأوروبيين إلى أن تفعيل الفقرات الخاصة بآلية فض النزاعات سيعني «نهاية الاتفاق».
صحيح أن هذه الفقرة تمت صياغتها بلغة دبلوماسية، إلا إن مضمونها واضح للغاية، وهي تحمل تحذيراً لإيران بأن «صبر» الأوروبيين على انتهاكاتها للاتفاق بلغ حد النفاد، ويشكل «تهديداً» لإيران بإعادة ملفها النووي إلى مجلس الأمن الدولي مما يعني إمكانية أن يعمد المجلس إلى إعادة فرض العقوبات الاقتصادية التي أوقف العمل بها بفضل الاتفاق. ويستطيع الأوروبيون، من جهتهم، أكثر من ذلك إذا قرروا الالتحاق بالركب الأميركي وفرض عقوبات خاصة بهم على طهران؛ الأمر الذي يضعها في عزلة سياسية ودبلوماسية واقتصادية ومالية شبه تامة. وترى المصادر الأوروبية المشار إليها أن إيران التي اتبعت، بداية، سياسة «الخطوات الصغيرة» لتقليص التزاماتها النووية، ربما تكون قد «أخطأت حساباتها» في إعادة تشغيل موقع «فردو» وحجمت أهمية الاعتراض الأوروبي. بيد أن هذه المصادر ترى أن ما يمكن أن «يأمله» الأوروبيون من مطالبة إيران بالتراجع عن انتهاكاتها السابقة هو في الواقع «توقعهم» بأن تضع حداً لهذه السلسلة من الانتهاكات. وبكلام آخر، فإن المطلوب من طهران هو «تجميد» تدابيرها خصوصاً أن أي خطوة إضافية قد تعني نهاية الاتفاق وتخلي الأوروبيين عن دعمه. وإذا حصل ذلك، فإنه «لن يعود موجوداً».
أما الفقرة الأخيرة، فإن الغرض منها الرد على ادعاءات إيران بأن الأوروبيين لم يلتزموا بالاتفاق، ولذا فإنها تنص على أن البلدان الثلاثة والاتحاد الأوروبي «احترموا تماماً التزاماتهم؛ بما في ذلك رفع العقوبات». وأخيراً، نص البيان على دعوة إيران إلى العمل مع الأطراف كافة من أجل «خفض التصعيد» فيما يلتزم الأوروبيون، من جانبهم، بمتابعة جهودهم الدبلوماسية (في إشارة إلى الجهود الفرنسية) من أجل توفير الشروط الضرورية لتبريد «حدة النزاعات في الشرق الأوسط، وذلك للمحافظة على السلام والأمن الدوليين»، وهم يرون أن جهودهم أصبحت أكثر صعوبة «بسبب ما قامت به إيران مؤخراً».
لم يتأخر الرد الإيراني على البيان الأوروبي، وجاء على لسان الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته ومبعوث طهران لدى الوكالة الدولية. ولم تخرج الردود الإيرانية عن الأدبيات المعروفة التي تلجأ إليها طهران لتبرير مواقفها والتنديد بتقصير الأوروبيين الذين تنتظر منهم تعويضها عن الخسائر المترتبة عليها بسبب العقوبات الأميركية. وبرر روحاني، أمس، في مؤتمر صحافي متلفز، تخلي بلاده عن التزاماتها بسبب الأزمة التي «خلقها العدو» (أي الولايات المتحدة الأميركية) نافياً عن أوروبا حقها في «لوم» طهران. وفي رأيه، فإن طهران «انتظرت عاماً كاملاً» حتى تعطي الفرصة للأوروبيين للوفاء بالتزاماتهم.
يذكر أن أوروبا عمدت إلى إقامة آلية تعويض مالية سميت «إنستكس» لمساعدة طهران على الالتفاف على العقوبات. لكنها بقيت هامشية ومحصورة بالجوانب الإنسانية بسب الضغوطات الأميركية على الشركات الأوروبية الكبرى التي سارعت بالخروج من إيران وتصفية أعمالها هناك. ولخص روحاني استراتيجية بلاده في مقاومة الضغوط الأميركية بأنها تقوم على «المقاومة والمثابرة» وقبول الانخراط في مفاوضات. لكنه أشار إلى أنه حتى اليوم «لم يوافق على العروض» التي وصلت إليه؛ في إشارة إلى عرض ماكرون الأخير الالتقاء بالرئيس ترمب في نيويورك شرط العودة عن الانتهاكات مقابل رفع جزئي للعقوبات. لكن روحاني أغفل الإشارة إلى تقرير الوكالة الدولية الصادر الاثنين الماضي والذي «رصد آثار يورانيوم طبيعي من مصدر بشري في موقع لم تعلن عنه إيران» للوكالة.
بيد أن الرد الأعنف جاء من الوزير ظريف الذي سخر من الأوروبيين في تغريدة أمس جاء فيها: «إلى زملائي في الاتحاد الأوروبي – الدول الأوروبية الثلاث… أولاً: (الوفاء التام بالتزامات خطة العمل الشاملة المشتركة)… أنتم؟ حقاً؟ اذكروا التزاماً واحداً أوفيتم به في الشهور الثمانية عشرة الأخيرة. ثانياً: فعّلت إيران واستنفدت آلية فض النزاع بينما كنتم أنتم تماطلون، ونحن الآن نطبق علاجات الفقرة (36)». وتعدّ إيران أن الفقرة المذكورة تعطيها حق تقليص التزاماتها عندما لا تلتزم الأطراف الأخرى بالتزاماتها. لكن الطرف الأوروبي لا يقبل بهذا التفسير. أما بالنسبة لتقرير الوكالة الأخير، فقد جاء الرد عليه، أمس، من قبل كاظم غريب آبادي، مبعوث إيران إلى الوكالة في فيينا؛ إذ أكد أنها مُنحت حق الوصول إلى الموقع المشكوك فيه «بأقصى تعاون وإيضاحات». ونوه آبادي في بيان بأن «التعاون بين إيران والوكالة بشأن هذه القضية لا يزال مستمراً». كذلك، فقد دعا إلى الامتناع عن الأحكام المسبقة وعن تقديم أي تقييم غير ناضج للوضع، عادّاً أن أمراً كهذا «سيكون بهدف تشويه الحقائق لتحقيق مكاسب سياسية».