كشفت التظاهرات الشعبية التي عمت معظم المدن العراقية، ورد فعل النخبة السياسية الحاكمة العنيف على مطالب الإصلاح، التناقض البنيوي بين طبيعة النظام القائم ومصالح الشعب العامة؛ فبنية النظام القائمة على المحاصصة الحزبية والطائفية والقومية أفرزت ظاهرتي الزبائنية والفساد الشامل؛ ما انعكس سلبا على مصالح المواطنين بانعدام تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات وتفشّي الفساد ونهب المال العام وانهيار الخدمات: الصحة، التعليم، النظافة، مياه الشفة النظيفة، والكهرباء، وارتفاع نسبة البطالة، خصوصا بين حملة الشهادات المتوسطة والعليا، ما حوّل حياة المواطنين إلى معاناة يومية قاسية ومرّة، وجعل الحل المنطقي للتناقض الصارخ بين النخبة السياسية والمواطنين تغيير النظام السياسي برمته، حيث لا يمثل إصلاح النظام حلا للمصاعب والكوارث التي ترتبت على بنيته السياسية والإدارية من قيم ومصالح وعلاقات، وما أتاحته من فرص للإثراء غير المشروع، عبر نهب المال العام، وتفشّي الفساد وهيمنة المفسدين والفاسدين.
لم يولد نظام المحاصة في العراق ولادة طبيعية، كما هو الحال في لبنان الذي ولد كيانه السياسي عام 1943 على قاعدة محاصة بين المسيحيين/ الموارنة والسُنّة؛ مالت لصالح الموارنة، وتحوّله في “وثيقة الوفاق الوطني اللبناني”، المعروفة باتفاق الطائف، والتي اتفق عليها يوم 30 سبتمبر/ أيلول 1989، بعد مفاوضات شاقّة شارك فيها 63 نائبا لبنانيا، إلى محاصصة بالتساوي: 50% للمسيحيين و50% للمسلمين، بل (ولد نظام المحاصصة في العراق) بقرار سياسي
“ما يحصل في العراق، وفي لبنان، رسالة تنبيه وتحذير إلى كل القوى السياسية والاجتماعية في الدول العربية”أميركي تحقيقا لرغبة إسرائيلية قديمة، فقد تبنت إسرائيل، منذ أقامتها الحركة الصهيونية على أرض فلسطين، استراتيجية إضعاف المحيط العربي، عدوها القومي، عبر العمل على تفتيت دوله على أسس دينية ومذهبية وعرقية والتحالف مع دول الجوار غير العربية: تركيا وإيران وإثيوبيا، فقد بدأت العمل على الفكرة مبكرا في اجتماع عقد يوم 27/2/1954 ضم بن غوريون وموشيه شاريت وإسحق لافون وموشيه دايان، لمناقشة خطة وضعها بن غوريون وأتباعه لإقامة دولة مارونية في لبنان، تبدأ الخطة بتفجير حربٍ أهليةٍ ممولةٍ إسرائيلياً لإحداث شرخ في الاندماج الوطني، وإيجاد قطيعة نفسية بين أبناء الشعب الواحد تقود إلى المفاصلة، وتشكيل كيان ماروني، وفق ما ذكره موشيه شاريت في مذكراته. وقد عادت إسرائيل إلى فكرة الدويلات الدينية أو المذهبية لإضفاء الشرعية على نفسها، دولة قائمة على أساس ديني، ولإضعاف دول الجوار عبر تفتيتها إلى دويلاتٍ دينية ومذهبية متصارعة، ففي دراسة إسرائيليةٍ كتبها يديد ينون تحت عنوان: “إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات”، اعتبر سلطات الأمر الواقع التي أفرزتها الحرب الأهلية في لبنان (بدءا من 1975) خريطة للبنان الجديد المكون من خمسة كانتونات، ورأى فيها نموذجاً لتفتيت دول المشرق العربي إلى أقاليم ذات طابع ديني أو مذهبي. وعليه سوف تظهر في سورية دويلة علوية على الساحل، ودويلة سُنّية في دمشق، ودويلة سُنّية ثانية في حلب، معادية لدويلة دمشق، ودويلة للدروز في الجولان وحوران. وكذلك تفتيت العراق إلى دويلات شيعية وسُنّية وكردية، وهكذا في مصر ودول الخليج. تنطلق الفكرة من استثمار حالة التعدّد الديني والمذهبي والإثني، فبحسب الكاتب: “جميع الدول العربية الموجودة إلى الشرق من إسرائيل مقسّمة ومفكّكة من الداخل”، و”سورية لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن دولة لبنان الطائفية، باستثناء النظام العسكري القوي الذي يحكمها، ولكن الحرب الداخلية اليوم (يشير إلى الصراع الذي انفجر في الثمانينيات بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين) بين الغالبية السُنيّة والأقلية الحاكمة من الشيعة العلويين، الذين يشكلون 12% من عدد السكان، تدل على مدى خطورة المشكلة الداخلية”.(ترجمة لنص الدراسة؛ ملحق في كتاب دفاع عصمت سيف الدولة، ثورة مصر العربية. دار المستقبل العربي المصرية. 1990).
قاد فشل مساعي إسرائيل في تحويل لبنان إلى خمسة كانتونات إلى تعديلٍ في مقاربتها للوضع السياسي في دول الطوق العربي بتبني خيار تعميم نظام المحاصصة اللبناني فيها، بعد أن تأكد لديها هشاشته ونقاط ضعفه الكبيرة: انقسامات اجتماعية؛ ضعف الاندماج الوطني؛ حروب أهلية متكرّرة تجعله ضعيفا وقابلة للاستثمار عند الحاجة، فدفعت بتنفيذ التوجه في العراق الذي فقد بالغزو الأميركي أراضيه عام 2003 السيطرة على تحولاته الداخلية ومستقبله العام، بدءا من الرئاسات الثلاث، الجمهورية والوزارة والبرلمان، قبل التوسّع في التطبيق ليشمل الوزارات.
وقد أكملت الجمهورية الإسلامية الإيرانية الخطوة بتبنّيها إستراتيجية بديلة لإستراتيجية “تصدير الثورة” التي فشلت في تحقيقها، أساسها إقامة حزام حماية خارجي لأمنها القومي، عبر تسوير حدودها بأنظمة حليفة، ما استدعى اختراق الدولة والمجتمع العراقيين مدخلا إلى إضعاف الدولة العراقية؛ تحقيقا لهدفين استراتيجيين: ضمان عدم تحول العراق إلى تهديد مجدّدا، في ضوء حرب الثماني سنوات بينهما، وكسب موطئ قدم فيها بالعمل على تشكيل توازن قوى داخلي مواتٍ لتكريس نفوذها وتنفيذ تصوراتها وخياراتها وخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية.
نجحت إيران بتوفر عاملين. الأول: نسبة الشيعة الكبيرة في العراق، حوالى 55% من السكان، وما كان لحق بهم من تمييز وقمع واضطهاد وإذلال في ظل النظام السابق، تبنّت قضيتهم
“انصب غضب المتظاهرين على إيران لوجودها المكشوف، ولدورها في صياغة نظام المحاصصة القائم ونفوذها على مؤسساته”واستثمرت مظلوميتهم، فأسّست لحالة تعاون وتشارك وتماهٍ انتقلت منها إلى تشكيل تنظيمات حزبية ومليشيات مسلحة (منظمة بدر وجناحها العسكري فيلق بدر، كتائب عصائب أهل الحق، كتيبة أبي الفضل العباس، كتيبة كربلاء، كتيبة زيد بن علي، اجتمعت تحت اسم موحد كتائب حزب الله العراقي، وجيش المختار) ولاؤها لإيران قبل العراق. والثاني: انفجار الصراع الطائفي بين السُنّة والشيعة بين عامي 2006 و2008، وقيام الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وسيطرتها على مساحة واسعة من أرض العراق. استثمرت الصراع الطائفي في تعميق القطيعة بين السُنّة والشيعة العراقيين، لتعميق تبعية الشيعة لها، على خلفية تخويفهم من عودة السُنّة إلى سدة الحكم بدعم الدول العربية السُنيّة، وأتاح لها إعلان “داعش” إقامة خلافة إسلامية عام 2014 العمل العسكري العلني في العراق، في ظل توجه دولي لمحاربة “داعش” وخلافته المزعومة، فتوسّعت في تشكيل التنظيمات المسلحة تحت مسمّى فضفاض: الحشد الشعبي، تجاوز عددها 70 تنظيما، ضخّت لها الأسلحة والأموال، وأرسلت الخبراء العسكريين لتدريبها وتوجيهها تحت نظر المجتمع الدولي ورضا القوى الكبرى، واستغلت انتصار العراق على “داعش” في شرعنة الحشد الشعبي، على خلفية دوره في محاربة “داعش”، وتحويله إلى جزءٍ من المؤسسة العسكرية العراقية الرسمية، فغدا عينها وذراعها داخل النظام العراقي، من دون أن يكلفها كثيرا حيث بات تسليحه ورواتب جنوده من الدولة العراقية.
لقد حل نظام المحاصصة في العراق بديلا لخطط إسرائيل، فتفتيت دول الطوق، حقق لها النتيجة نفسها، ولتصدير الثورة الإسلامية، حقق لإيران هدفيها بتسوير حدودها بخطوطٍ دفاعيةٍ خارجيةٍ وإضعاف دولة العراق. ولمّا كانت إسرائيل غير مرئية في لعبة زرع المحاصصة في العراق، فقد انصب غضب المتظاهرين على إيران لوجودها المكشوف، ولدورها في صياغة نظام المحاصصة القائم ونفوذها على مؤسساته وقدرتها على تحديد خياراته، وهذا جعل المواطنين يحمّلونها مسؤولية تعثر بلدهم وخراب حياتهم، وكل ما لحق بالدولة والمجتمع العراقيين من كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية.
كان على القوى السياسية والاجتماعية العراقية رفض هذا التوجه منذ البداية، لأن ثمّة تجربة بجوارهم: لبنان، أعطت صورة واضحة عن عيوب نظام المحاصصة: الانقسام الطائفي، الزبائنية والفساد وهدر المال العام ونهبه والحروب الأهلية المتكررة.. إلخ.
ما يحصل في العراق، وفي لبنان، رسالة تنبيه وتحذير إلى كل القوى السياسية والاجتماعية في الدول العربية، خصوصا سورية؛ حيث يجري التفاوض على صياغة دستور جديد، من مخاطر نظام المحاصصة، ودعوة إلى رفضه ومقاومة أي توجه نحو إقراره أو تبنّيه.
العربي الجديد