التقيت قبل عدة أسابيع بمدير بأحد بنوك الاستثمار بواشنطن، قدمه لي أحد الأصدقاء المشتركين، ساخراً، على أنه أحد أهم من تسببوا في الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
ومن خلال حواري معه، عرفت أنه كان يعمل وقتها بإدارة قروض الرهن العقاري، وأنه والعديد من زملائه كانوا يشعرون بالقلق تجاه العديد من المنتجات التي تم طرحها قبيل الأزمة، إلا أنهم لم يكن بيدهم أن يمنعوها، بعد أن أصبحت “الفرخة التي تبيض ذهباً” لأغلب البنوك العاملة في الولايات المتحدة في ذلك الوقت.
تجاذبنا أطراف الحديث في العديد من الأحداث الاقتصادية التي كانت تحتل مانشيتات الجرائد هذه الأيام، قبل أن يباغتني محدثي بسؤال: “هل تريد أن تعرف من أين ستأتي الأزمة القادمة؟”.
أومأت برأسي ليقول ما عنده، متوقعاً أن يعطيني إجابة سهلة، من نوعية “الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين”، أو “الصراع على مصادر الطاقة”، أو “التقييمات المبالغ فيها للأسهم الأميركية”، إلا أن إجابته كانت إلى حدٍ كبير من خارج صندوق أفكاري.
قال لي صديقي الجديد، الذي انتقل للعمل بإدارة قروض الأفراد ببنك آخر، إنه يتوقع أن تأتي الأزمة الجديدة من قروض السيارات، بعد أن زادت تلك النوعية من القروض خلال الفترة الأخيرة، نتيجة لارتفاع أسعار السيارات، واضطرار المشترين إلى الاقتراض لشرائها، في وقت تعاملت البنوك وشركات الإقراض مع تلك القروض تماماً كما كانوا يتعاملون مع العقارات خلال الأزمة السابقة!
وأوضح الصديق أن تجار السيارات لا يقولون “لا” أبداً للمشترين الراغبين في الحصول على قروض، مهما انخفض دخلهم أو ساءت درجة تقييمهم الائتماني Credit Score، وأن معارض السيارات تلجأ للبنوك أو مؤسسات الإقراض في البداية، فإن رأت تلك المؤسسات أن المشتري الراغب في الحصول على قرض غير جدير بالاقتراض، تعرض المعارض على العميل إقراضه بمعدل فائدة يصل أحياناً إلى 30%، عن طريق مؤسسة مالية تكون متعاقدة معها، مقارنة بمعدل يتراوح بين 4%-7% في حالة اقتراضه من البنوك.
ويضطر العميل، الراغب بشدة في شراء سيارة تقلل من تكاليف انتقاله وأسرته، وربما تكون مصدر رزق جديداً له، إلى قبول عرض البنك، وهو ما يؤدي لتحمله معدل فائدة مرتفعاً جداً على الدولار، لعدد من السنوات يصل إلى سبعة أو أكثر، يدفع فيها أقساط شهرية، ترتفع بقيمة ما يدفعه ثمناً للسيارة إلى أكثر من ضعف ثمنها الأصلي، في حالة دفعه نقداً.
وتكون الأقساط الشهرية التي يدفعها العميل متساوية، إلا أن الجزء الأكبر منها في الشهور الأولى يكون من الفائدة المحملة على العميل، بينما الجزء الأقل يكون من أصل المبلغ، وهو ما يجعل مبلغ الدين يتناقص ببطء طوال مدة القرض.
وفي حالة تأخر العميل في سداد أي من الأقساط، يتحمل غرامات كبيرة، وتتراجع درجة تقييمه في التصنيف الائتماني، الأمر الذي يجعله لا يتمكن من الاقتراض إلا بمعدلات فائدة أعلى، ليدخل بذلك في دائرة مفرغة من المديونية، التي لا تزداد إلا ارتفاعاً.
وفي حالة وفاته قبل سداد كامل مبلغ قرض السيارة، يستحوذ المعرض على السيارة، ويبيعها ليستخدم ثمن البيع في سداد ما تبقى من القرض، الذي يتجاوز في بعض الأحيان ثمن بيع السيارة، بسبب قاعدة أن الأقساط تسدد من الفوائد أكثر مما تسدد من القرض خلال الشهور الأولى.
ويؤكد صديقي أن معارض السيارات الآن تحقق مكاسب من ترتيب القروض لمشتريي السيارات أكبر من مكاسبها من التجارة نفسها.
ومع مرور الوقت، وازدياد طموح المشترين، يتجه مشترو السيارات، الذين لم يكملوا سداد ثمن سياراتهم، لمبادلتها بأخرى أكبر وأحدث وبالطبع أغلى، بعد الحصول على قرض جديد، ربما يضاف إلى ما تبقى من المديونية القديمة، التي تنتقل إلى المعرض بائع السيارة الجديدة، وهكذا.
ومع تراكم المديونيات على المشترين، واضطرارهم في بعض تلك الجولات من الشراء المتكرر، إلى شراء سيارة أقل في القيمة من سابقتها، تتراكم الديون على المشتري، وتتجاوز في بعض الأحيان قيمة السيارة، في ظاهرة يطلق عليها “حقوق الملكية السالبة”، والتي يكون فيها المقترض كمن يغرق “تحت الماء”.
وتشير الإحصاءات إلى أن 33% ممن استبدلوا سياراتهم بسيارات أخرى، وحصلوا على قروض أعلى، خلال الفترة التي مضت من العام الحالي، يعانون من حق ملكية سالب، مقارنة بنسبة 28% قبل خمس سنوات، و19% قبل عشر سنوات.
المدهش في الموضوع، أن المؤسسات المالية التي تقوم بتقديم تلك النوعية من القروض منخفضة الجدوى، والتي أصبح يطلق عليها أيضاً subprime، كما كان الحال مع قروض الرهن العقاري، تقوم بخلطها ببعض القروض الأعلى جودة، وبيعها للمستثمرين المتعطشين لمعدلات الفائدة المرتفعة، خاصة في ظل سيطرة معدلات الفائدة الصفرية، والسالبة، على نسبة كبيرة من أدوات الدين، الأمر الذي يعطي تلك القروض “المسممة” جاذبية كبرى.
وإذا كانت معارض السيارات تظهر في مقدمة مقدمي هذه القروض، فإن شركات صناعة السيارات لم تعد تكتفي بتجارة السيارات التي كانت في وقت من الأوقات واعدة، قبل أن تدمرها وتقضي على أرباحها منافسة لا تزداد إلا اشتعالاً، وتضطرها لدخول سوق إقراض العملاء.
وتشير بعض الإحصاءات إلى أن ذراع الإقراض لشركة فولكس فاغن تحتفظ في سجلاتها بما يقترب من مائتي مليار دولار، وأن أكبر عشر شركات لصناعة السيارات تحتفظ في سجلاتها بما يقرب من تريليون دولار من تلك القروض.
وربما تكون أول علامة مقلقة في المستقبل هي توقف المستثمرين عن شراء هذه النوعية من القروض، التي تعرض في السوق الأميركية بأكثر من مائة مليار دولار كل عام، وهو ما يجعلنا في مهب رياح أزمة جديدة، على غرار ما حدث في العام 2008، وإن كانت أسلحة مواجهتها هذه المرة أقل كثيراً مما كان بحوزتنا وقتها.
العربي الجديد