دخلت الانتفاضة الشعبية اللبنانية فصلا جديدا، أكثر جذرية واتساعا وصعوبة مما سبق، بعد أن تكفلت المقابلة التلفزيونية لرئيس الجمهورية ميشال عون أمس الأول بإشعال غير مسبوق لغضب الشارع، وهو ما تسببت به بشكل أساسي المواقف الاستفزازية لعون من الفعاليات الاحتجاجية المتواصلة على امتداد البلد. لئن أقر عون بأن الناس فقدت الثقة بجميع القيادات والأحزاب الحاكمة، فإنه حمَّل المسؤولية لسواه من أركان النظام ولام نفسه بأنه لا يملك الصلاحيات الكافية، كما لو كان يريد المزيد، ثم طالب الناس بالعودة إلى منازلهم، وهجر الشارع، وإلا الهجرة إلى خارج لبنان، بل اتهم الشعب بالهلع المتسبب بتعميق الأزمة المصرفية، داعيا المواطنين إلى أن لا يخبئوا أموالهم في الأسرّة.
لم يكد عون ينتهي من إفراغ جعبته على هذا النحو، حتى قطعت الطرقات مجددا، ووصل المتظاهرون الليل بالنهار، هم الذين يواصلون الفعل الانتفاضي منذ 17 تشرين الأول/اكتوبر الماضي. وإذا كان عون شدد خلال مقابلته على حقه في استخدام، ليس فقط “القوة” بل “العنف” أيضا، حين يقفل معتصمون المداخل والطرقات، فقد جاء قتل علاء أبو فخر في خلدة إثر الموجة الاحتجاجية التي أعقبت المقابلة العونية، ليدخل الانتفاضة في بعد جديد.
فعطفا على شعار المنتفضين “كلن يعني كلن”، اتسع نطاق التظاهرات ليصل مداها إلى محيط القصر الجمهوري، ويرتفع أكثر فأكثر مطلب إسقاط عون، لا سيما إذا كان عاجزا عن تطبيق الدستور لجهة تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة لاختيار رئيس جديد للحكومة. ما زال عون مصرا على تحديد سمات التشكيلة الحكومية العتيدة قبل مشاورات التأليف، وهو ما يعد خروجا نافرا عن الدستور اللبناني. بالتوازي، يرفض عون وحزب الله الذهاب إلى حكومة مشكلة من التكنوقراط غير المنتمين إلى أحزاب سياسية، ويشددون على قيام حكومة تكنوسياسية كما يسمونها، أي تحفظ تمثيلا سياسيا، لا سيما لحزب الله وتيار عون، ويمكن أن تُطعّم بوجوه العمل المدني، على سبيل “تطعيمها بالحراك الشعبي”.
وإذا كان وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف انضم مؤخرا إلى رفض عون وحزب الله لحكومة التكنوقراط، فإن الأنظار لا تزال تتجه إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، الذي نال قسطه من سلبية عون في مقابلته، ويحافظ الحريري على موقف رمادي حتى الساعة، بدعوى أنه “لم يكلف بعد، كيف يعتذر؟”، من دون أن يعلق على المماطلة الحاصلة في التكليف أصلا.
وفيما يتخبط أركان النظام السياسي أكثر فأكثر، وتسجل اعتداءات بالرصاص الحي على المتظاهرين في أماكن متفرقة، يواصل المحسوبون على “حلف الممانعة” حملتهم ضد قائد الجيش جوزيف عون بدعوى أنه يستجيب للمطالب الأمريكية بحماية المتظاهرين!
وفيما تتجه الأنظار اليوم إلى تشييع علاء أبو فخر، في وسط بيروت، يشدد الثائرون على أنهم يمثلون الوحدة الشعبية في مواجهة التهديد كما التهويل بالحرب الأهلية المتزايد في خطاب وإعلام التركيبة الحاكمة. مأتم هذا الشاب المقتول غيلة، والذي تجاوز حسابات حزبه “التقدمي الاشتراكي” للانخراط في الثورة، هو لحظة جماهيرية تشير أكثر فأكثر، إلى أن ما حصل مع عبد العزيز بوتفليقة وعمر حسن البشير، في مجرى هذا العام، أي تنحيتهما، تحبذه فئات واسعة من اللبنانيين اليوم. لكنه استحقاق عسير، بالنسبة إلى الظروف اللبنانية المحكومة بسلاح حزب الله، الذي وضع منذ بدء الانتفاضة خطا أحمر لاعتراض أي مسعى للإطاحة بعون.
القدس العربي