لا تزال الانتفاضة العراقية تطفح بالعنف والدم، وسط إصرار من المتظاهرين على تحقيق أقل أهدافهم قبل أن يغادروا ساحات، هي سلاحهم الوحيد أمام بطش قاسم سليماني ووكلائه في بغداد من الحكومة ذات التوزيع الطائفي، إلى ميليشيات “الحشد الشعبي” وسواها من التشكيلات السرية، المؤتمرة بأمر طهران.
ومع أن المظاهرات العراقية كانت وجيهة في مطالبها التي ساندتها أحزاب عراقية وأطراف في الحكومة والمرجعية، إلا أنها واجهت عنفاً فوق المفرط وفق تقديرات حتى المحسوبين على بعض الأجهزة الحكومية، سقط على إثره نحو 300 شهيد حتى الآن ومئات الجرحى.
غدر وصمت عالمي
لكن الاحتجاجات على الرغم من ذلك لم تقنع المتحكّمين في المشهد العراقي بالاستجابة لها بعدُ، حتى في الحد الأدنى من مطالبها وهو استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وسط صمت عالمي، دفع محللين عرباً مثل مشاري الذايدي، إلى التساؤل عما إذا كان الغربيون “غدروا بالعراقيين حاليا. كما غدروا من قبل بالإيرانيين أثناء الثورة الخضراء عام 2009″؟
هذا على الرغم من إقرار العراقيين أنفسهم بأن مطالب المحتجين محقة، وأن العنف المتخذ في حقهم، تجاوز استخدام القوة المفرطة إلى القتل غير المبرر، مثلما يؤكد رئيس مركز بغداد للدراسات الاستراتيجية مناف الموسري، في حديثه إلى قناة “الحدث”، معتبراً أن “القوات الأمنية استخدمت العُنف المفرط وفوق المفرط ضد الاحتجاجات، وجميع الأسئلة التي وجهت إلى المسؤولين من قبل السياسيين والمرجعية تم تجاهل الإجابة عنها، كما أن ردود أفعال المنظمات الدولية الخجولة، جعلت المتظاهرين يعتقدون أنها سمحت للقوات الأمنية بالاستمرار في استخدام القوة غير المبررة”.
وبالنظر إلى الهدف الرئيس من الاحتجاجات وهو فك ارتهان القرار العراقي بالهيمنة الإيرانية، استعرض تقرير حديث عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات سيناريوهات، رجح أكثرها تشاؤما، نظير تحكم رجال قاسم سليماني بالقرار في بغداد، وتوقع “اشتداد حدّةِ القمعِ تجاه المحتجين، إذ قد تشنُّ عناصرُ الحشد الشعبي حملةً سريةً من العنف الموجه ضد قادة الاحتجاجات تشملُ الاغتيالات الموجهة وعمليات الاختطاف من أجل رفع تكلفة الاحتجاجات، وبثّ حالة من الخوف داخل الحركة. وهناك بالفعل مجموعةٌ من الصحافيين ونشطاء المجتمع المدني قد فروا من بغداد بعد أن علموا أنه من الممكن استهدافهم بالاعتقال أو ما هو أسوأ”.
وحذر التقرير من أنه بمرور الوقت قد يؤدي ذلك القمع الممنهج إلى إعاقة مسيرة الاحتجاجات وإبطاء زخمها. لقد كان هذا الأسلوبُ فعالاً للغاية في تقليص حجم الاحتجاجات في البصرة التي شهدت احتجاجاً صامتاً هذا العام بعد حملة عنيفة ضد نشطاء المجتمع المدني في أعقاب احتجاجات البصرة في أغسطس (آب) 2018. بيد أنه من الصعبِ في بغداد تضييق الخناق على قادة الاحتجاجات نظراً لانتشارهم وصعوبةِ تحديدِ هوياتِهم. ومع ذلك، وبالنظر إلى المكاسب الكبيرة التي تسعى إيران من أجلها (وحالة الملل التي اعترت الغرب إزاء عدم الاستقرار في العراق)، فمن المرجح أن يتبعَ كلٌّ من إيران وعملاؤها هذا الخيارَ بحماس أكبر.
لكن التقرير، الذي اطلعت “اندبندنت عربية” على نسخة منه، لم يستبعد في الاحتمالين الباقيين، أن تستجيب القوى العراقية لمطالب المتظاهرين، فيستقيل عبد المهدي، أو تذهب البلاد إلى انتخابات مبكرة، وهو الذي حمل عنوان “خريف الغضب في العراق: ضربة مميتة للنظام الطائفي”.
ولفتت إلى أن استقالة رئيس الوزراء على الرغم من التدخلاتِ الإيرانية التي ترفضها، إلا أن القادة السياسيين في العراق “قد يسعون إلى تغيير رئيس الوزراء في محاولةٍ لحماية مستقبلهم السياسي من خلال تزويد المتظاهرين بتغيير رمزي. ومع ذلك، سيكون من الصعبِ على الفصائل السياسية في العراق الاتفاقُ على شخصية توافقية أخرى لرئاسة الوزراء. هذا بالإضافة إلى أنه من غير المرجَّحِ أن تهدئَ هذه الخطوةُ المحتجِّين”.
أما الانتخابات المبكرة، وهي السيناريو الثالث الذي طرحه التقرير، فإنها هي الأخرى ليست خياراً سهلاً “فإن مثل هذه العملية سوف تستغرقُ عدةَ أشهر، فضلاً عن وجود تساؤلات حول مصداقيةِ العملية الانتخابية في العراق بعد ضَعفِ نسبة المشاركة في انتخابات 2018 بسبب الادعاءات واسعة الانتشار بوجود تزوير. من المرجح أن تستمرَّ أيُّ حكومة انتقالية خلال الفترة التي تسبق الانتخابات في مواجهةِ ضغوط المحتجين”.
لماذا الرد الإيراني بالشيطنة؟
ومن غير المحتمَلِ وفق مركز الأبحاث أن يكونَ للمتظاهرين القدرةُ على وضع قوائمَ انتخابية جادة لخوض الانتخابات الجديدة بنجاح، ولا سيما أن الأحزابَ السياسية القائمة تتمتع بشبكاتِ مصالحَ واسعة وفَهمٍ متطور لكيفية النجاح في الانتخابات. وبالإضافة إلى ذلك، فإن حالةَ عدم التيقن التي تسبق الانتخابات وبعدها قد تؤذن بمزيدٍ من عدم الاستقرار في العراق.
وبنى التقرير فرضياته التي رجح، على درس السلوك الإيراني، ومركزية العراق في خطط طهران نحو الهيمنة في المنطقة أيدولوجياً وسياسياً، إذ جاء الرد الإيراني على الانتفاضة العراقية بالرفض كما اللبنانية، منذ مرحلة مبكرة من بدء الاحتجاج في 2018. ولما كانت الترتيباتُ المؤسسية القائمة في العراق متوافقةً مع المصالح الإيرانية، فقد ردت إيران ردّاً دفاعيّاً على الاحتجاجات الشعبية. وكذلك أدت الاحتجاجاتُ الجماهيرية في لبنان، التي تتأثر حكومتُها تأثراً شديداً بإيران، إلى زيادة القلق الإيراني تجاه مستقبلِ نفوذها السياسي في المنطقة.
تتمتع الشخصياتُ السياسية المقربة من إيران بنفوذٍ قويٍّ في الحكومة العراقية الحالية، وكذلك الحشد الشعبي، الذي تعتبره إيران وسيلةً للتحوطِ من قوات الأمنِ العراقية المدربةِ
وتتمتع الشخصياتُ السياسية المقربة من إيران بنفوذٍ قويٍّ في الحكومة العراقية الحالية، وكذلك الحشد الشعبي، الذي تعتبره إيران وسيلةً للتحوطِ من قوات الأمنِ العراقية المدربةِ على يدِ الولايات المتحدة، ازدادت مواردُه المالية ونفوذه خلال فترة ولاية رئيس الوزراء عبد المهدي.
ويرى التقرير المؤشر الأبرز على نوايا إيران السيئة نحو التظاهرات العراقية، في إلقاء المرشدُ الإيراني الأعلى آية الله خامنئي باللوم على الاحتجاجات بوصفها مؤامرةً غربيةً تسعى إلى زعزعة استقرار الحكومة العراقية، قائلاً، “أناشد كلَّ مَن يحب العراق ولبنان أن يتصدى لأعمالِ الشغب وانعدام الأمن الذي تسببه الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الغربية الأخرى”.
ووثقت معطيات التقرير التدخل الايراني في العراق في الفترة التي أعقبت الانتفاضة بطريقتين أساسيتين: أولاً، قيل إنها دربت شخصياتٍ أمنيةً عراقيةً على أساليب القمع العنيف للاحتجاجات، بما في ذلك عن طريق توفير معلومات استخباراتية عن قادة الاحتجاجات. وثانياً، أقنع قاسم سليماني هادي العامري بالتخلي عن تحالفه مع مقتدى الصدر، الذي كان يمكنُ أن يطيحَ رئيس الوزراء العراقي لو أتيحَ له أن يستمرَّ.
مركزية العراق في مشروع إيران
وتنظر التحليلات والدراسات المهتمة ببحث التدخل الايراني في العراق، إلى أي تغيير في الواقع الجديد بأنه سيكون كثير الكلفة، إن كان على وكلاء طهران بوصفهم سيفقدون سيطرة بنوا عليها تحولات مصيرية، أو الوطنيين العراقيين من الشيعة أو السنة السياسيين والمتظاهرين، الذين سيحاول وكلاء إيران إلحاق أذى لا ينتهي عند حدٍ بهم، ذلك لأن مركزية العراق في مشروع إيران الإقليمي تمثل العمود الفقري، فطهران وفق الباحث العراقي فراس إلياس ذات “استراتيجية للقوة التدخلية في العراق، والأكثر تأثيرا في مخرجات التفاعلات الإقليمية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، فضلاً عن كونها استراتيجية تتميز برؤيتها التوسعية، التي تجعلها مختلفة حتى عن استراتيجيات القوى الإقليمية الأخرى، وكونها اتخذت من العراق مرتكزاً للانطلاق نحو مختلف دول الإقليم، من خلال استهداف الأقليات “الشيعية” الموجودة هناك”.
طهران جعلت من نفسها هدفاً
وهذا ما يبرر تخوف إيران من الوضع الراهن في العراق والنظر إليه بوصفه استراتيجيةً شديدة الخطورة عليها، بعد أن أصبح المحتجون كما يقول تقرير مركز الملك فيصل أكثر تشبثاً بإدانتهم للدور الذي تؤديه إيران في السياسة العراقية. وكذلك حذر المرجعُ الدينيُّ الأعلى آية الله السيستاني تحذيراً غيرَ مباشر من التدخل الإيراني في خطبة الجمعة الأخيرة، قال فيها، “ليس لأيِّ شخصٍ أو مجموعة أو جهة بتوجه معين أو أي طرف إقليمي أو دولي أن يصادرَ إرادة العراقيين أو يفرض رأيه عليهم”.
ومهما تكن النتائج التي تؤول إليها الحالة العراقية الراهنة، فإن الصيحات المعارضة المطالبة بالتغيير السياسي، جعلت إيرانُ من نفسها هدفاً لها من خلال السعي إلى الإبقاءِ على الوضع القائم. وقد فعلت ذلك من خلال منعِ إحدى الجهات الفاعلة السياسية الرئيسة من عزل رئيسِ الوزراء، ودعمها لقمع الاحتجاجات. وإذا ما استمرت الاحتجاجاتُ، فمن المحتمَلِ أن تتقلصَ قدرةُ إيران على التأثير في السياسة العراقية. بيد أنه من المهم أن تتوخى الجهاتُ الفاعلة الخارجية الحذرَ الشديدَ تجاه أيِّ جهودٍ للتدخل؛ إذ قد يؤدي التدخلُ المتصوَّرُ إلى تعزيز الرواياتِ الإيرانية بأن الاحتجاجاتِ جزءٌ من مؤامرة خارجية.
اندبندت عربي