منذ اليوم الأول لحركة الاحتجاجات التي عرفها العراق من الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، والمستمرة إلى هذه اللحظة، وعلى الرغم من وقع أكثر من 330 ضحية، وأكثر من 15 ألف مصاب، بدا واضحا تواطؤ المجتمع الدولي مع ممارسات السلطة في العراق استخدامها المنهجي والمتعمد للعنف، الذي وصل حد الإعدامات الميدانية للمحتجين، فضلا عن ممارسات التضييق على الحريات العامة، وصولا إلى حالات الاغتيال والاختطاف التي تقوم بها مجموعات تحظى بغطاء رسمي!
لم تتحرك الولايات المتحدة باتجاه إبداء موقفها إلا في اليوم السابع من الموجة الأولى للاحتجاجات، وبعد سقوط أكثر من 150 ضحية، واكثر من 5000 آلاف مصاب! من خلال اتصال هاتفي بين وزير الخارجية الأمريكية مع رئيس مجلس الوزراء العراقي. فقد نقلت لنا وزارة الخارجية الأمريكية النسخة «الأمريكية» للحوار الذي كان في مجمله حديثا دبلوماسيا عن التظاهرات السلمية بوصفها عنصرا أساسيا في كل الديمقراطيات، مع إدانة خجولة لما أسماه «أعمال العنف الدامية في العراق»، ودعوة للحكومة العراقية بممارسة أقصى درجات ضبط النفس، وإلى محاسبة من ينتهكون حقوق الإنسان! فيما تضمنت النسخة العراقية من «الحوار» حديثا عن ثقة وزير الخارجية الأمريكي بالقوات العراقية، وعن دعم الولايات المتحدة الأمريكية لجهود الحكومة العراقية بتعزيز الأمن والاستقرار، ومع عدم دقة النسخة العراقية للحوار، لم يصدر عن الجانبين ما يشير إلى عدم دقة هذه!
ورغم تغير اللهجة الأمريكية في سياق الموجة الثانية من الاحتجاجات، حين بدأت تأخذ طابعا أكثر تصاعدا، إلا أن اللغة الدبلوماسية بقيت حاضرة، ففي تصريح وزير الخارجية الأمريكي الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر أشار صراحة إلى أن على الحكومة العراقية أن تستمع إلى المطالب المشروعة للشعب العراقي، وإلى أنه يجب تخفيف القيود التي فرضت على حرية الصحافة والتعبير، كما شكك بنتائج التحقيق في اعمال القتل التي حصلت للمحتجين في الموجة الأولى من الاحتجاجات، عندما وصف في هذا التقرير بأنه يفتقر إلى «المصداقية الكافية»! لكنه في الوقت نفسه أكد دعم الولايات المتحدة «للمؤسسات العراقية»!
في يوم 5 تشرين الثاني/ نوفمبر، بدأت الولايات المتحدة، ولأول مرة، تربط بين حركة الاحتجاج في العراق، بسياق صراعها مع إيران! وذلك عبر تغريده لوزير الخارجية الأمريكي بأن كلا الشعبين العراقي واللبناني «يريدون استعادة بلادهم»، وأنهم اكتشفوا أن النظام الإيراني يصدر لهم «الفساد»، وان البلدين يستحقان أن يديرا شؤونهما «بعيدا عن تدخلات المرشد الخامنئي»! ليعود بعد يومين ليتحدث في برلين عما أسماه استمرار «النضال من اجل الديمقراطية» في شوارع بيروت وبغداد، وإلى أن المحتجين يتظاهرون ضد «الجمهورية الإسلامية في إيران»، لأنه يريدون أن يكونوا «عراقيين وليس جزءا من ميليشيا إيرانية»، وأن الولايات المتحدة ستساعدهم «للتخلص من النفوذ الإيراني وتحقيق تطلعاتهم»! وبعد ذلك أصدر السكرتير الصحافي للبيت الأبيض بيانا يوم 10 تشرين الثاني/ نوفمبر، يتحدث فيه عن القلق البالغ إزاء «الهجمات المستمرة» ضد المتظاهرين والناشطين المدنيين والإعلام، فضلا عن القيود المفروضة على الوصول إلى الإنترنيت، متهما النظام الإيراني صراحة بأنه يستخدم «الجماعات المسلحة والحلفاء السياسيين» بالعنف المميت لمنع المحتجين من «التعبير عن آرائهم بسلام». لتتقدم الولايات المتحدة للمرة الأولى بمطالبة صريحة للإصلاح الانتخابي «وإجراء انتخابات مبكرة»، وهو موقف لا يمكن التأكد من مدى جديته، وبالتالي علينا الانتظار لمعرفة الخطوات اللاحقة للتأكد من أن هذه الدعوة للانتخابات المبكرة لم تكن مجرد عبارة مرسلة، خاصة وأن بعثة يونامي في العراق، التي قال البيان إنه يعلن عن انضمامه إلى دعوتها للحكومة العراقية، لم تتحدث عن ذلك مطلقا!
الدولة/ السلطة في العراق لا تزال تعتمد، في الهروب من مسؤولياتها والانغماس في ممارساتها العنفية تجاه مواطنيها، على هذا التواطؤ الدولي على استمرار هذا النظام، وإن لم يحدث تغيير حقيقي في الموقف الدولي
أوروبيا، ليس ثمة موقف يمكن أن نصفه بأنه يعمل خارج سياق التواطؤ الصريح مع ممارسات الدولة/ السلطة في العراق. ففي نهاية الموجة الأولى من الاحتجاجات، تحديدا يوم 10 تشرين الأول/ اكتوبر قرأنا تغريدة لافتة للسفير البريطاني في العراق، استنكر فيها اللجوء إلى نظرية المؤامرة، مشددا على أن المطالب الرئيسية للمحتجين هي ليست جديدة، وهي «شرعية»، ليغمز الحكومة العراقية صراحة بدعوته لأن تتم حماية العراقيين «باستخدام قوات الأمن الوطنية الخاصة بهم»! ولكن الأمر تغير بعد ذلك، ففي تغريدات متتالية، ومع استخدام تعبيرات مقصودة مثل الحديث عن استخدام «العنف الجنائي» من أي جهة كانت، أو الحديث عن الادعاءات الموثوقة بشأن استخدام العنف المفرط وضرورة محاسبة الجناة، فإن الدعم البريطاني لحكومة عادل عبد المهدي بدا أكثر ارتباطا بالمواقف المعلنة للحكومة و لم يلتفت إلى المطالب الرئيسية للمحتجين.
الموقف الأوروبي لم يختلف كثيرا، مع أن النفوذ الأوروبي في العراق محدود جدا، وغير ذي تأثير حقيقي! أبدت بعثة الاتحاد الأوربي في العراق قلقها من الاستخدام المفرط للعنف، وشددت على أن إقحام «الكيانات المسلحة» في الاحتجاجات المناهضة للحكومة «غير مقبول»، لكنها في الوقت نفسه، وبعد سقوط أكثر من 220 ضحية وآلاف الجرحى، أشادت «بالجهود التي بذلتها الحكومة العراقية لتنفيذ التزاماتها بالتعامل مع الاحتجاجات بطريقة سلمية»! ولم تختلف مواقف الدول الأوربية عن موقف الاتحاد الأوربي.
يبقى الطرف الأكثر حضورا في المشهد العراقي هو بعثة الأمم المتحدة في العراق «يونامي»، والتي يحكم عملها في العراق القرار 1770 الصادر في العام 2007 الذي حدد مهمة الممثل الخاص للأمين العام ولبعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) بالقيام «حسب ما تسمح به الظروف وبناء على طلب حكومة العراق» بتقديم «المشورة والدعم والمساعدة» للحكومة العراقية ومؤسساتها المختلفة. وقد أعطى هذا القرار للممثل الخاص للأمين العام، وبعثة يونامي، إمكانيات عمل واسعة، لكنه ربط ذلك بشرط «طلب الحكومة العراقية» وهو الشرط الذي عطل إلى حد بعيد هذه الإمكانية، و حول دور الأمم المتحدة إلى مجرد «جهة استشارية داعمة ومساعدة» خاضعة لإرادة الحكومة العراقية وليس لها أي قدرة ذاتية على الفعل او الحركة، لاسيما مع ما أبدته هذه البعثة من الحرص غير المفهوم على عدم «إغضاب» الحكومات العراقية المتعاقبة! لهذا بدت الممثلة الخاصة للأمين العام أقرب إلى الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية منها إلى ممثلة للأمم المتحدة في حديثها عن أن «إغلاق الطرق المؤدية إلى المنشآت النفطية او الموانئ أو التهديد باغلاقها يكبد البلاد خسائر بالمليارات»! وحين قدمت «يونامي» مبادرة اعتمدت فيها وجهة نظر الحكومة العراقية أكثر من اعتمادها على مطالب المحتجين، واكتفت بإعادة صياغة وترتيب الخطاب الإنشائي والحلول الترقيعية التي قدمتها الدولة/ السلطة العراقية! مع إدراك هذه البعثة التام بأن الحكومة العراقية غير قادرة على تقديم أحد للعدالة بسبب استهداف المحتجين، لأنها ببساطة كانت شريكا أصيلا في هذا الاستهداف! وعلمها بأن الحديث عن «التحقيق الكامل في حالات الاختطاف والكشف عن هوية من يقفون خلفها» هو مجرد حديث إنشائي لا مصداقية له! كما أنها على يقين بأن الحديث عن قانون انتخابات قادر على ضمان انتخابات نزيهة وشفافة وعادلة، أو تشكيل مفوضية انتخابات يمكنها ضمان ذلك، عبر البرلمان العراقي الحالي هو حديث عبثي لا قيمة حقيقية له، مع تجاهلها التام للمطلبين الرئيسيين للمحتجين المتعلقين بإقالة او سحب الثقة عن الحكومة، و الانتخابات المبكرة!
لا يمكن في النهاية الا أن نستنتج كمراقبين للشأن العراقي أن الدولة/ السلطة في العراق لا تزال تعتمد، في الهروب من مسؤولياتها والانغماس في ممارساتها العنفية تجاه مواطنيها، على هذا التواطؤ الدولي على استمرار هذا النظام، وإن لم يحدث تغيير حقيقي في الموقف الدولي، تحديدا الموقف الأمريكي، ستبقي الدولة/ السلطة في العراق على استراتيجيتها في محاولة احتواء الاحتجاجات، حتى وإن ذهبت إلى المواجهة مع المحتجين! وإلى حين حصول هذا التغيير، يبقى للشارع العراقي وحده، تحديد مصير الحراك!