سباق متسارع تشهده الأحداث في العراق بين مسارين، أحدهما خطوات وإجراءات تنفيذ خطة الحكومة والأحزاب الحاكمة بإجهاض انتفاضة تشرين الأول/اكتوبر بكل الوسائل، والآخر مساعي قوى محلية ودولية لتدويل الأزمة، بهدف وقف العنف ضد المتظاهرين المصرين على تحقيق إصلاحات حقيقية ترضي الشارع الغاضب على العملية السياسية برمتها.
ومع قرار المحتجين بالاستمرار في النزول إلى الشوارع وتنفيذ الاعتصامات والتظاهرات والمواجهات السلمية التي حرصت على تجنب الاعتداء على القوات الأمنية أو المصالح العامة والخاصة للحفاظ على سلمية التظاهرات وعدم إعطاء الحكومة مبررات القمع، فإن القوات الأمنية، أو عناصر ميليشيات الأحزاب المزروعة فيها، صعدت من استخدام العنف بكل أشكاله، حيث تجاوزت أعداد الشهداء 350 إضافة إلى أكثر من 15 ألف مصاب، عدا مئات المختطفين والمعتقلين من الرجال والنساء.
وتتركز المواجهات الحالية بين المحتجين والقوات الأمنية في العاصمة العراقية، على محاولة المتظاهرين التحرك نحو ساحات جديدة لفرض المزيد من الضغوط على الحكومة للاستجابة لمطاليبهم المشروعة. وكانت الجسور التي تربط جانبي بغداد، أبرز ميادين المواجهة التي سعى المتظاهرون لعبورها للاقتراب من المنطقة الخضراء التي تتحصن فيها الحكومة والبرلمان، ولذا تشهد ساحة الخلاني القريبة من ساحة التحرير والمجاورة لجسر السنك أقوى المواجهات التي سقط فيها عدد كبير من الشهداء والجرحى وكذلك جرت مواجهات كر وفر على جسور الأحرار والشهداء وباب المعظم وعلى طول شارع الرشيد. والحال نفسه تكرر في الناصرية والبصرة وكربلاء، حيث فشلت كل محاولات فض الاعتصامات سواء بحرق خيام المتظاهرين أو اعتقال وخطف العشرات من الناشطين أو من خلال استخدام العنف المباشر والاغتيالات ضد المتظاهرين.
خطف واعتقال الناشطين
ورغم أن أعداد المتظاهرين في ساحات التظاهر والاعتصام قد انخفضت في بعض الأيام جراء أساليب العنف وسقوط المزيد من الشهداء والجرحى اضافة إلى تزايد عمليات خطف واعتقال الناشطين والتهديدات الحكومية بزج المتظاهرين في السجون، إلا أن آلاف الشباب المعتصمين ما زالوا متمسكين بالبقاء في مواقعهم رغم المخاطر والتحديات حتى تحقيق مطاليبهم، وتتعزز أعدادهم بانضمام متظاهرين جدد باستمرار وخاصة بعد دعوة المرجع الشيعي علي السيستاني المتظاهرين للبقاء حتى تحقيق مطالبهم.
وفي المقابل يبدو واضحا من خطابات رئيس الحكومة عادل عبد المهدي وتصريحات رموز الأحزاب، أن قرار أحزاب السلطة وبتشجيع خارجي، في التعامل مع الاحتجاجات الواسعة في المدن العراقية هو إجراء إصلاحات شكلية مع بقاء الأحزاب الفاسدة في قيادة السلطة، وإجهاض الانتفاضة بكل الوسائل الممكنة، مع رهان الحكومة على ثلاثية العنف والتضليل ونفاد صبر المتظاهرين لفض الاعتصامات.
وإضافة إلى تصاعد العنف ضد المتظاهرين، فقد تزايدت ادعاءات الحكومة هذه الأيام باستخدام المتظاهرين للسلاح ضد عناصر الأجهزة الأمنية وقيامهم بحرق وتخريب المرافق العامة، وكثر حديثها عن “مجموعات منفلتة” تطلق النار على المتظاهرين وأن “التظاهرات صاحبتها أفعال إجرامية وإرهابية” من دون ان تحدد تلك الجهات، في تكرار لسيناريو سوريا، عندما أراد النظام إنهاء حركة المعارضة السلمية بزج عناصره الأمنية المسلحة والميليشيات وسط المحتجين، للقيام باستخدام السلاح ضد القوات الأمنية وتخريب المؤسسات العامة، لايجاد المبرر لاستخدام العنف ضد الاحتجاجات والذي أدى إلى اشتعال حرب مدمرة ما زالت مستمرة منذ سنوات.
تدويل الانتفاضة
وازاء إصرار أحزاب السلطة على عدم إجراء إصلاحات حقيقية في إدارة البلد والإبقاء على عادل عبد المهدي واستخدام العنف المفرط وتزايد أعداد ضحايا الحراك الشعبي، فقد تصاعدت دعوات داخلية للتحرك نحو الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لإيقاف العنف ضد التظاهرات والضغط على حكومة بغداد لايجاد حلول للأزمة وسط قناعة تامة بعجز الحكومة عن تلبية مطالب الشعب في الإصلاح.
ويرى المطلعون على تطورات الأوضاع في البلد، أن العراقيين، وخاصة خلال الانتفاضة الحالية وطريقة تعامل الحكومة معها، لم يعودوا يثقون بالحكومة والأحزاب السياسية التي يتهمها الحراك بأنها السبب في معاناة الشعب وضياع ثروات البلد، ولذا فقد أصبح من الضروري اللجوء إلى المجتمع الدولي، كمنقذ وضامن لإصلاحات حقيقية وللإشراف على انتخابات نزيهة تبعد أحزاب الفساد والتبعية. ولذا بدأ تحرك نشيط لتدويل الأزمة العراقية من خلال تصريحات قوى سياسية محلية وأممية ودولية.
ويرى الكثير من العراقيين والمراقبين أن ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت، لديها القدرة والخبرة والشجاعة، لتفعيل دور إيجابي للأمم المتحدة في حل أزمات العراق. وكان لمواقف بلاسخارت وتقاريرها الموضوعية عن تطورات الأوضاع في العراق أمام الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، قبول كبير في الشارع العراقي، وخاصة وقوفها مع مطالب المتظاهرين ورفضها استخدام العنف الحكومي ضدهم، إضافة إلى حرص الممثلة الأممية على إجراء لقاءات مع قوى سياسية وعامة وزيارة ساحة التحرير للقاء المتظاهرين والذهاب إلى البرلمان لبحث الأزمة.
وعقب زيارة بلاسخارت للنجف ولقاءها المرجع الديني علي السيستاني، قبل أيام، اهتم العراقيون بنقلها تأكيده أن “المرجعية رفضت استخدام العنف ضد المتظاهرين كما أبدت قلقها من عدم جدية القوى السياسية للمضي في الإصلاحات” وتحذيره “إن لم تكن السلطات قادرة أو لا تريد تحقيق مطالب المتظاهرين، فلا بدّ من سلوك طريق آخر”. ونقلت أيضا عن المرجع الديني الأعلى، دعوته “ألا يعود المتظاهرون السلميون إلى بيوتهم من دون تحقيق مطالبهم المشروعة”.
وقد تعزز حراك الأمم المتحدة بمواقف دولية أبدت القلق من اتساع العنف ضد المتظاهرين.
وجاءت البيانات الأمريكية حول التظاهرات، واتصالات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، بعادل عبد المهدي حول الأزمة، وتأكيده رفض العنف ضد المحتجين، بمثابة رفع الدعم الأمريكي عن الحكومة العراقية، عبر الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، وتأييد مطالب التظاهرات. كما أعلن سفير الاتحاد الأوروبي في بغداد مارتن هاث، أنه “التقى بمعية سفراء الدول الأعضاء بعبد المهدي، لدعوته إلى إنهاء العنف والتخويف، ومساءلة مطلقي النار ورفض القيود على الصحافة وقطع الإنترنت”.
وكان طبيعيا أن المواقف الدولية تجاه الانتفاضة لم تحظ برضا الحكومة والأحزاب التي تريد الاستفراد بإدارة البلاد والأزمات وفق مصالحها الخاصة، حيث شنت حملة انتقادات ورفض للتدويل، في تناقض مفضوح يتمثل برفضها التدخل الأممي والدولي والقبول بالتدخل الإيراني الواضح في العراق.
وفي السياق ذاته، هدد نائب رئيس جمهورية العراق الأسبق إياد علاوي، على هامش مشاركته في منتدى عمان الأمني في الأردن قبل أيام بـ”اللجوء إلى المحاكم الدولية إذا لم تتم محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين” مشددا على “حق المتظاهرين العراقيين في المطالبة بلجم النفوذ والتدخل الإيراني في شؤون بلادهم”. وسبق لعلاوي أن دعا إلى انتخابات قريبة بإشراف الأمم المتحدة أو لجنة يتفق عليها العراقيون.
وكانت دعوات انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي لرفع علم الأمم المتحدة في التظاهرات من أجل تشجيعها على التدخل وحماية المتظاهرين.
خطة أحزاب السلطة
وازاء مطالبات المتظاهرين بإبعاد أحزاب السلطة جميعها عن أي حكومة مقبلة، أعلن قادة في الأحزاب انهم اتفقوا على رفض الاستجابة لمطالب المتظاهرين بحكومة بلا أحزاب كما اتفقوا على دعم إجراءات حكومة عبد المهدي ومنها إجراء تعديلات وزارية.
وفي خطوة استباقية لإجهاض تدخل الأمم المتحدة في تصحيح الأوضاع، أكدت رئاسة الجمهورية العراقية، رفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية، مبينةً أن “الإصلاح المنشود قرار عراقي لا يخضع لإملاءات خارجية”.
كما أعلنت حكومة بغداد الانتهاء من إعداد قوانين جديدة للانتخابات، ومفوضية الانتخابات، وإحالتها إلى البرلمان، فيما بدأت لجنة برلمانية اجتماعاتها لتعديل دستور البلاد، إلا أن البرلمان ناقش مجددا “قانون حرية التعبير عن الرأي والتظاهر” الذي كان مؤجلا بسبب الخلافات حول تعارض بنوده مع الدستور، في وقت اعتبر المراقبون أن إعادة طرح القانون يهدف إلى فرض قيود على التظاهرات وحرية التعبير لصالح السلطة. وحتى المشاريع التي تدعي الحكومة والبرلمان انها إصلاحية وتستجيب لمطاليب المتظاهرين، تعرضت إلى انتقادات واسعة لأنها ملغومة كمشروع قانون الانتخابات الذي عدوه “مخالفا لإرادة الشعب العراقي كونه يكرس هيمنة الأحزاب المتنفذة الفاسدة ويقصي الأحزاب الصغيرة والجديدة”.
لقد أصبح واضحا ان اتفاق أحزاب السلطة على دعم إجراءات حكومة عبد المهدي والتصدي للانتفاضة، وعدم إجراء إصلاحات جذرية والإبقاء على قواعد اللعبة السياسية كالمحاصصة وتقاسم الغنائم ورفض تدويل الأزمة، يعني بقاء الحال على ما هو عليه الآن، بكل ما يحمله من تدهور شامل غير مقبول لأوضاع البلد، كما يعني ضياع التضحيات الغالية التي قدمها المتظاهرون في الانتفاضة الحالية، وهو ما لا يمكن تصور قبول الشعب به، في ظل الوعود الحكومية بالإصلاح التي لا تقنع أحدا ولا تقدم جديدا سوى محاولات لتحسين صورة العملية السياسية من قبل الأحزاب نفسها التي يدعو المحتجون إلى ابعادها كلها عن المشهد العراقي.
القدس العربي