تحوّلت منطقة شرق الفرات في سورية إلى أخطر منطقة في العالم، نتيجة التداخل الحاصل في مناطق نفوذ اللاعبين المختلفين، ففي تلك المساحة، الصغيرة نسبياً، والتي كانت، إلى زمنٍ قريب، جغرافيا مهملة ومنسية، تقع حدود المشاريع الجيوسياسية، بطرقها ومنعطفاتها المرجح أن تحدد، بدرجة كبيرة، مسارات السياسة والصراع الدوليين في الزمن المقبل.
حتى اللحظة، لا شيء يشي بصدام مؤكد بين اللاعبين الكبيرين، روسيا والولايات المتحدة الأميركية، بل تلمح الأخبار من هناك إلى وجود تنسيق معين بينهما، لتلافي التصادم والإحتكاك بين عسكرهما المنتشر في المنطقة، ودورياتهما الجوّالة، ويبدو أن القادة الميدانيين قادرون على استيعاب هذه التطورات، والتعامل معها بما يضمن عدم الانزلاق إلى مواجهات بين الطرفين. ولكن المناخ العام، والبيئة السياسية التي تظلل المشهد، يبدوان غير ذلك تماماً، إذ ليس صعبا معرفة عناصر التفجير المحتملة في هذا الوضع، وتوقع احتمالات حصولها في لحظة ما، وبالتالي تغيير المعطيات الميدانية الراهنة التي قبلتها الأطراف المختلفة، إما على مضض، أو بانتظار حصول متغيراتٍ تساهم في إعادة صياغة قواعد اللعبة على شكل مختلف.
لم يكن القبول الروسي بهذا الوضع الناشئ أكثر من حالة انتظار قرار ثان للرئيس الأميركي،
“ترجيحات أن بوتين قد يعمد إلى شنّ حربٍ بالوكالة على القوات الأميركية الموجودة شرق الفرات”دونالد ترامب، فهو، ومن التجربة العملية في سورية، قام بتحولاتٍ عديدة، وأكثر من مرّة أجرى تقليصات لعدد الجنود المتواجدين في الميدان، كما ألغى ميزانياتٍ كانت مخصصة لنشاطات أميركية في سورية، وأوقف التعاون مع بعض اللاعبين المحليين، بالإضافة إلى رفعه الغطاء عن فصائل جنوب سورية، بدون مبرّر واضح، وهو يدرك أن لا روسيا ولا نظام الأسد كان من الممكن أن يخرقا هذا الغطاء بدون وجود ضوء أخضر من الإدارة الأميركية.
في ذلك الحين، وعلى الرغم من سياسة الأرض المحروقة التي تبنّاها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلا أنه كان يسعى إلى بناء هيكل تسويةٍ مع الأطراف الإقليمية والولايات المتحدة. وكانت تحركاته الميدانية تكتسب زخمها عند التوصل إلى تفاهماتٍ مع تلك الأطراف. وهنا يكمن العنصر الأساسي في قصة نجاح بوتين السورية، ذلك أن بوتين أنجز مهمته بتغطيةٍ دولية وإقليمية، وأوجد أمراً واقعاً، بعيداً عما إذا كان قد التزم بالاستحقاقات التي طلبتها الأطراف الأخرى، في مقابل تيسير سيطرته على المناطق التي كانت خارج سلطة نظام الأسد.
واليوم تبدو الأمور مختلفة في نظر بوتين الذي يُعتقد أن الوقائع تجاوزت مرحلة مراعاة حساسيات اللاعبين الخارجيين، فتلك مرحلةُ، بعجرها وبجرها، تجاوزتها السياقات، وهو الآن في مرحلة بناء سياقٍ مختلف، عناصره الأساسية، تأهيل نظام الأسد والشروع بإعادة إعمار ما تم تدميره، وهو يعتقد، حسب ما يتّضح من الخطاب الروسي، أن عبور هذه المرحلة يجب أن يكون ميكانيكياً ومفتاحه الأساسي ما أنتجته الحرب من وقائع، وخصوصا لجهة إنهاء المعارضة المسلحة، والسيطرة على أكبر جزء من الأراضي السورية، وهي معطياتٌ كافية لجعل الأطراف الخارجية تقتنع بالانخراط في خطة بوتين السورية، من دون الخوض حتى في تفاصيل العملية السياسية المقبلة وشروط خوضها، وانتظار مخرجات اللجنة الدستورية، ما دامت كل هذه إجراءات لن تغير واقع عودة سيطرة نظام الأسد، وتجعل من أي تفكيرٍ بغير ذلك مجرّد عبثٍ لا طائل منه.
تشكل هذه الوقائع، وطريقة التفكير الروسي، مؤشراتٍ على احتمالات التصادم الروسي الأميركي في مناطق شرق الفرات، فالواضح أن هناك جهات أميركية، وخصوصا وزارة الدفاع
“سعي إلى إحراق ورقة رهان بوتين على نزعة ترامب في الانكفاء عن سورية لعدم وجود حوافز مالية تُغريه بالبقاء فيها”(البنتاغون)، ترفض منح بوتين انتصاراً نهائياً في سورية، وتصّر على عرقلة هذا الأمر إلى أبعد درجة، وهي عملت ما في وسعها، لجعل ترامب يتراجع عن قرار الانسحاب، والاحتفاظ بجزء من الأرض السورية تحت سيطرة القوات الأميركية، وبالتالي إحراق ورقة رهان بوتين على نزعة ترامب في الانكفاء عن سورية لعدم وجود حوافز مالية تُغريه بالبقاء فيها، بعد أن حوّل السياسات الأميركية إلى استثمار فج.
وبذلك، يغيّر الأميركيون مواقع اللاعبين، إذ يتحوّل بوتين من وضع اللاعب الهادئ وصاحب الحسابات البعيدة، إلى لاعبٍ نزقٍ متهوّر للخروج من وضعية الأزمة التي وضعته فيها عقول “البنتاغون” والدولة الأميركية العميقة التي لا يبدو أنها تسامحت مع ألاعيب بوتين الاستخباراتية في أميركا نفسها وأوروبا، وهي تدرك أنها بذلك تضعه في وضعٍ حرج، فبوتين المستعجل للفلفة الموضوع السوري، لمعرفته أن استثماراته الدبلوماسية والسياسية، على هامش حربه السورية، ستكون مهدّدةً بالضياع، وأن الهيبة التي صنعها لنفسه، ولروسيا هي اليوم أمام اختبار مفصلي، وأن خياراته محدودة للخروج من هذه الوضعية.
تذهب ترجيحات إلى أن بوتين قد يعمد إلى شنّ حربٍ بالوكالة على القوات الأميركية الموجودة شرق الفرات، من خلال تشكيل عناصر مقاومة لها، بمساعدة إيران، من العشائر العربية الموجودة في المنطقة، ولكن هذا الخيار ليس مضموناً بسبب العداء المعلن من العشائر في تلك المنطقة لنظام الأسد وإيران، وبالتالي سترفض أي تعاونٍ مع روسيا في هذا الإطار، كما أن تلك العشائر باتت تدرك حقيقة اللعبة. ومن مصلحتها وجود طرف ثالث لتحقيق قدر من التوازن في مواجهة نظام الأسد الذي لن يرحمها في حال سيطرته على مناطق شرق الفرات.
والحال، إن إنعدام الخيارات، وإلحاحية اللحظة واستعجال بوتين للخروج من هذا المأزق، وكذلك رغبته في عدم إعطاء الفرصة للأميركيين لتطوير هذه الوضعية وتزخيم أدواتها، ستدفعه إلى البحث عن مخارج، حتى لو انطوت على بعض المخاطر، ومن ضمنها التصادم المباشر مع الأميركيين شرق الفرات.
العربي الجديد