عكَس الخطاب الذي ألقاه الرئيس الإيراني حسن روحاني في 11 تشرين الثاني/نوفمبر مساراً جديداً في جهوده المتواصلة للدفاع عن الإنجاز الذي انفردت حكومته بتحقيقه في السياسة الخارجية، أي «خطة العمل الشاملة المشتركة» («خطة العمل»)، حيث قال: “مرت سنوات منذ أن منعت الأمم المتحدة إيران من شراء الأسلحة، ولا يمكننا بيع أسلحتنا. لكن إذا التزامنا بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فسيتم رفع العقوبات المفروضة على صفقات الأسلحة في العام المقبل، ويمكننا بسهولة شراء وبيع الأسلحة” – وهو وصف دقيق لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231. كما دحض المتشددين الذين دفعوا طهران للانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، بقوله: “يمكننا ترك الاتفاق النووي، لكن [ذلك سيؤدي] إلى عودة عقوبات مجلس الأمن ضد إيران. مصالحنا هي في البقاء في «خطة العمل». نحن نتمسك بـ «خطة العمل»، لكن في الوقت نفسه نخفف من التزاماتنا خطوة بخطوة.”
وفي تعليقات كهذه، لم يعد روحاني يصف الاتفاق على أنه طريق إيران نحو الازدهار، وإنما كوسيلة لتحقيق الأهداف الأمنية العزيزة للغاية لعناصر النظام الأكثر تطرفاً – ناهيك عن العدد المتزايد من الناخبين الذين يشاركون تلك العناصر وجهات نظرها في هذه الأمور. وعلى الرغم من أن الرئيس الإيراني ناقش هذه الفكرة في ملاحظات أخرى خلال العام الماضي، إلا أنه يبدو الآن أنها تمثل خط دفاعه الرئيسي قبل الانتخابات المقبلة في 2020-2021.
أكبر كرة قدم سياسية لإيران؟
عندما يذكر روحاني المنتقدين “المتشددين” لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فإنه لا يشير إلى أولئك الذين عارضوا الاتفاق نفسه فحسب، بل الفكرة ذاتها للتفاوض على مثل هذا الاتفاق في المقام الأول. ولم يريد هؤلاء النقاد أن تسعى الحكومة للتوصل إلى اتفاق يؤدي تدريجياً إلى رفع العقوبات عن إيران، ولا حتى العقوبات الكبرى. وعلى الرغم من أن خصوم روحاني يشعرون بالإحباط مثلما يشعر هو نفسه حول المدى الذي تضر فيه العقوبات بالاقتصاد، إلا أنهم يعتقدون أن السعي إلى تخفيف العقوبات ضمن إطار «خطة العمل الشاملة المشتركة» سوف يتعارض مع مصالحهم بطريقتين: من خلال منح الرئيس الإيراني قاعدة قوية من القوة الاجتماعية للفترة المتبقية من رئاسته، وتعزيز جميع الفصائل التي ساندته، بما فيها الإصلاحيون.
على مدى السنوات القليلة الماضية بذل المتشددون والمرشد الأعلى علي خامنئي نفسه جهوداً هائلة لإخراج هذه الفصائل من الحلقة السياسية، بتكلفة كبيرة على لشرعيتهم المحلية. وإذا تمكن روحاني وحلفاؤه من تحقيق مكاسب اقتصادية وعسكرية كبيرة من خلال البقاء ضمن «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فقد يتمكن القادة الإصلاحيون والتكنوقراط من الفوز في الانتخابات، والعودة إلى المناصب السياسية والاقتصادية الرئيسية القائمة، وتهميش المحافظين مرة أخرى.
لقد كان نهج خامنئي تجاه هذا التحدي ذو شقين. فمن ناحية، انتقد باستمرار «خطة العمل الشاملة المشتركة»، محذراً من عدم الثقة من الغربيين وانتقاده للمسؤولين الإيرانيين “الساذجين” الذين يعتقدون أن التفاوض أو تطبيع العلاقات مع أمريكا من شأنه تخفيف الضغط على طهران. ومن ناحية أخرى، اضطلع بدور حاسم في القرار الذي اتخذته إيران بالمضي قدماً بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015 والبقاء طرفاً في الاتفاق بعد الانسحاب الأمريكي منه العام الماضي، على الرغم مما اعتبره المتشددون رد أوروبي ضعيف لتصرفات إدارة ترامب. ولا يقرّ خامنئي علناً بهذا الدور – فموقفه الرسمي هو أنه لا يؤيد الانسحاب الرسمي من «خطة العمل الشاملة المشتركة» كما لا يدعو إلى الانسحاب منها. ومع ذلك، كانت موافقته الضمنية ضرورية بكافة الأحوال.
ولطالما اعتقد أنصار خامنئي المخلصون المتشددون أنه لا يستطيع دائماً الكشف عن رأيه الفعلي في سياسة معينة أو إصدار أوامر مباشرة وفقاً لتلك المبادئ بحكم مكانته الفريدة ومسؤولياته الكبيرة في البلاد. وبالتالي، يميل هؤلاء الأتباع إلى التعبير عن وجهات نظر أكثر تطرفاً من تلك التي يعبرها خامنئي، حيث يتولون مهمة التحدث عنه بصورة غير رسمية بقولهم ما كان يمكن أن يقوله لو لم يكن مقيداً بما يناسب “نفعية النظام”.
على سبيل المثال، إن رئيس تحرير جريدة “كيهان”، حسين شريعتمداري، هو من بين أولئك الذين يقولون إنهم موالون لخامنئي ولكنهم يتخذون دائماً موقفاً عاماً أكثر تطرفاً منه – ولا يتم أبداً توجيه اللوم لهم من قبل المرشد الأعلى على قيامهم بذلك. وقد هاجمت وسائل الإعلام الرئيسية التابعة لشريعتمداري سياسة روحاني النووية دون قيد أو شرط ودعت صراحة إلى الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» منذ أن خرجت منها الولايات المتحدة.
وفي الآونة الأخيرة، ردّت مقالة افتتاحية لشريعتمداري نُشرت في صحيفة “كيهان” في 12 تشرين الثاني/نوفمبر على خطاب روحاني من خلال وصفه بأنه “الخاسر” في الدبلوماسية النووية، وليس “البطل” و “الخبير” كما يصف نفسه. ووفقاً لهذا النقاش، فإن وضع الأمل في «خطة العمل الشاملة المشتركة» قد أدى إلى تهميش “اقتصاد المقاومة” في إيران، الذي يراه الكثير من المتشددين بأنه الخيار الواقعي الوحيد لحل المشاكل الاقتصادية في البلاد. وشجبت الافتتاحية أيضاً التداعيات المدمرة التي خلفتها «خطة العمل الشاملة المشتركة» على برنامج إيران النووي، على الرغم من تعهد روحاني بأن الاتفاق سينقذ البرنامج النووي والاقتصاد الإيراني على حد سواء. ومن وجهة نظر شريعتمداري، كان خطاب الرئيس الإيراني محاولة يائسة لاستعادة شعبيته المفقودة، التي من المفترض أنها انخفضت “من 24 مليون صوت” إلى “أقل من 240،000” إذا أُجريت الانتخابات اليوم.
تواصل روحاني مع «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني
على الرغم من أن توقعات شريعتمداري حول نسبة التصويت مبالغاً فيها بشكل يثير السخرية، إلا أن شعبية روحاني وسلطته هي بالفعل في حالة تراجع. فلم يتمكن الرئيس الإيراني من وقف الفساد المستشري في الحكومة والشبكات ذات الصلة بالدولة، مما سمح لـ «الحرس الثوري الإسلامي» بالسيطرة بشكل أكبر على الاقتصاد. وقد فشل أيضاً في الوفاء بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول إقامة مجتمع أكثر انفتاحاً سياسياً وثقافياً. وفي غضون ذلك، واصلت طهران سياستها المتحدية في المنطقة المسؤولة إلى حد كبير عن التكاليف المالية الباهظة للبلاد وعزلتها الدولية. وأخيراً وليس آخراً، فشلت «خطة العمل الشاملة المشتركة» في تخفيف العقوبات، خاصة منذ انسحاب الولايات المتحدة.
وفي ظل هذه المشاكل، يعتقد المراقبون للشؤون الإيرانية عموماً أنه لا يوجد لدى ما يسمى بـ “المعتدلين” الذين يمثلهم روحاني ولا ما يسمى بـ “الإصلاحيين” الذين يمثلهم الرئيس السابق محمد خاتمي أدنى فرصة للفوز في الانتخابات البرلمانية العام المقبل أو في الانتخابات الرئاسية في 2021. ويبدو أن بعض أصوات المعارضة تتفق مع هذا التقييم – ففي مقابلة أُجريت في آب/أغسطس، جادل كبير الاستراتيجيين الإصلاحيين، سعيد حجريان، بأن الانتخابات ستكون فرصة للمتشددين للتنافس مع بعضهم البعض، وليس مع المعتدلين.
وسواءً كان روحاني يشعر بالخيانة من قِبل جمهور الناخبين الذي أيده سابقاً أو أنه ببساطة يدرك من هو صاحب السلطة بالفعل، فقد ركز مؤخراً على التواصل مع دوائر السلطة المتشددة التي مارست ضغوطاً عليه منذ اليوم الذي تولى فيه منصبه، لا سيما من خلال استمالة تركيزها على قضايا الأمن. فهو يعلم أن الدعاية الحكومية والجهود ذات الصلة التي يبذلها خامنئي جعلت موضوع الأمن مصدر قلق كبير لغالبية الإيرانيين، الذين رأوا التطورات في المنطقة مثل ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» بأعين قلقة. إن تأجيج مثل هذه المخاوف يساعد النظام على تبرير سياساته المتحدية في الشرق الأوسط، والبحث عن مبرر لبرنامجه الصاروخي المتوسع، وإعادة تأهيل الصورة الداخلية لـ «الحرس الثوري» الإيراني باعتباره الوصي الرئيسي على السلامة العامة لإيران وسلامة أراضيها.
ويستخدم روحاني هذه الورقة نفسها بعد أن عجز عن تلبية التوقعات الاقتصادية للناخبين، حيث يحاول تغيير وجهة الخطابات عبر تناول مصدر قلقهم الكبير الآخر، وهو الأمن. وعلى وجه التحديد، شدد على دور «خطة العمل الشاملة المشتركة» في تمكين إيران من استئناف صفقات شراء الأسلحة قريباً – وهذه طريقته في تحذير الناس ضمنياً من أن حلّ الاتفاق قد يُضعف القدرات العسكرية للبلاد ويعرّض أمنها للخطر.
ويوجه روحاني رسالة مماثلة إلى العديد من منتقديه داخل «الحرس الثوري» الإيراني، من خلال تنبيههم بضرورة تجنب أي محاولات حقيقية لإخراج إيران من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، لأن العقوبات المتجددة الناتجة التي ستفرضها الأمم المتحدة ستؤذيهم أكثر مما يتصورون. وقد حذر خطابه «الحرس الثوري» ضمنياً من أنهم إذا أرادوا الاستمرار في مغامراتهم العسكرية في المنطقة، فإنهم سيحتاجون إلى المال والأسلحة، وسيكون الحصول على الاثنين أكثر صعوبة دون الاتفاق النووي.
ومن هذا المنطلق، أصبحت «خطة العمل الشاملة المشتركة» القلب النابض لحكومة روحاني وسط الخلل الذي أصاب أجهزتها الأخرى. ولم تعد المسألة قضية جوهرية في السياسة الخارجية فحسب، بل المصدر الرئيسي للصمود السياسي لكتلته – وأي فشل في هذا الإطار سيجبره وحلفاءه على توديع السلطة للسنوات القادمة.
معهد واشنطن