شهد العراق منذ أوّل أكتوبر/ تشرين الأول الماضي انفجاراً سياسياً بخروج آلاف مؤلفة من الشباب إلى الشوارع في بغداد وعدّة مدن جنوبية، واستمرت التظاهرات السلميّة أكثر من 45 يوما، ولكنها قوبلت بوحشية، وسقط مئات الشباب ضحايا الرصاص الحي والقنابل السامة مع استخدام الخطف والتنكيل، وجرح الآلاف وامتلاء المعتقلات بآلافٍ غيرهم.. وتعيش الطبقة الحاكمة اليوم مأزقاً لا يمكنها الخروج منه، إذ كانت الحكومة العراقية قد وقعت في تناقضات جدّ كبيرة بينها وبين الشعب، وفقدت مصداقيتها، كونها خرقت الدستور، وأنها كانت ولم تزل تكذب على العالم، فهي الجلّاد الذي قتل الشباب على الأرض بدم بارد، وهي الضحيّة كما تصوّر نفسها للعالم أنها لا تعرف من الذي تصدّى لقتل المتظاهرين.
كفل الدستور العراقي حق المواطن في التعبير السياسي سلمياً من دون مزاحمته أو قمعه، أو إهانته، فكيف بقوات عسكرية وأمنية ومليشياوية تابعة للحكومة تقتل المتظاهرين العزّل ظلماً وعدواناً؟ وكيف يمكن أن تمثّل الرئاسات الثلاث كوميديا تافهة بإعلان رئيس الجمهورية عن استقالة رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، ولكن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، يمنعه من تقديمها بفعل هيمنته الغبية على صنع القرار في مصير العراق، في حين أن الايرانيين تأثروا بثوّار العراق، لتنطلق شرارة الاحتجاجات الإيرانية ضد نظام وليّ الفقيه، وستتلاقح الأحداث من بلد إلى آخر.
يحمّل الشعب العراقي المسؤولية كاملة لحكومة عادل عبد المهدي في قمعها المتظاهرين، والعالم كله يعلم أن العراق يزدحم بالمليشيات والعصابات التي لها قوتها على الأرض وبطشها بالناس، كما لها سيطرتها على الرؤوس الكبيرة في البلاد، وقد ثبتَ للعالم ضعف هذا النظام وانهيار
“يحمّل الشعب العراقي المسؤولية كاملة لحكومة عادل عبد المهدي في قمعها المتظاهرين”أخلاقياته، من خلال استماتته للبقاء في السلطة، مهما بلغت الأثمان، كما دلّت الأحداث المأساوية على تماسك جبهة المتظاهرين العراقيين وصمودهم بوجه تفاهة الطبقة الحاكمة ودورها غير الأخلاقي، إذ لم نشهد أية استقالات فردية أو جماعية باستثناء استقالة نائبين شيوعيين.
وبدا واضحاً، بعد مضي أكثر من 45 يوما على الثورة، ازدياد مطالب الشعب من السلطة بمرور الزمن، وكنا قد سمعنا للمرة الأولى في عموم العراق ارتفاع شعار “نريد إسقاط النظام”، وللمرّة الثانية ارتفاع شعار “إيران بره بره”، بمعنى أن الشعب المتضرّر لا يهمّه بعد اليوم الكلام المعسول، ولا الخطب والتصريحات الكاذبة والوعود الجوفاء، بل يريد استعادة حقوقه التي استلبتها الطبقة السياسية الحاكمة منذ 17 عاماً، واستلبت المليشيات العميلة كلّ العراق وضيعت موارده بالمليارات، وشوهّت صلة العراق بأشقائه العرب.
تدعو سلسلة مظاهرات العراقيين الضخمة والمثيرة إلى التأمل كونها تفاقمت، كما يظهر، بلا قيادة حقيقية لها، وأن هويتها عراقية، على الرغم من عدم اشتراك الجميع فيها، وكأنّ اتفاقاً مشتركاً قد تمّ عقده في الخفاء، أو أن أجندة خفيّة سعت إلى هذا الأسلوب لتحقيق الأهداف بسرعة، كيلا تتّهم الحكومة الثوار بتهم طائفية أو جهوية أو عربية. وكانت الأحداث المستمّرة عنيفة جداً ومفاجئة باستخدام قوات الأمن النار والغازات السامة ضد المتظاهرين الذين كانوا يأملون تحسن أوضاعهم المعيشية والخدمية والصحية. ولكن الحياة العراقية غدت لا تطاق، بفعل الفساد المستشري، وسياسات الحكومات البليدة، وضياع فرص العدالة بسيطرة الطفيليين والفاسدين، وتطبيق المحاصصات الطائفية في كلّ أصقاع البلاد، مع سوء الخدمات وتهرؤ المؤسسات. وفوق هذا وذاك، اختراق ايران العراق وهيمنتها على مقدراتّه من مليشيات تابعة لها مباشرة.
وعليه، ليس للشعب العراقي، وبفعل حرمانه الجمعي، إلا الثورة في محاولة بطولية لاسترداد الكرامة المفقودة، وأن الانفجار ضدّ الحكومات العراقية ومن يمثلها، فضلا عن الوقوف ضد السلطات الثلاث، العليا والتشريعية والتنفيذية، والغضب من القوى المشيطنة والأحزاب والكتل والتيارات والمليشيات السياسية.. وأغلبها قوى دينية طائفية مراوغة ومخادعة وكاذبة ومزوّرة، لا تتمتع بأية مصداقية، ولا أيّ احترام مع عبثها ومطامعها، واستحواذها على أنفاس العراقيين.
معاناة العراقيين من الفساد المستشري في خلايا نظام الحكم مع اقتصاد فاشل ومسروق بمئات المليارات، وندرة فرص العمل، وتزايد سياسيين تافهين يتوزّعون بالمحاصصة في المراكز الحساسة والمناصب العليا! المشكلة أن هؤلاء يمثلون جميعاً طبقة نفعية وصولية لها مصالحها، وليس لها أيّ ضمير إنساني ولا أي شعور بالذنب، ولا أيّ مصداقية، فيما يتحدثون باسم الدين والإسلام والمرجعية. وبدا واضحاً أنّ شرخاً بدأت تتسّع خروقه في النسيج الاجتماعي العراقي منقسماً بين جيلين، كهول وشباب، إذ بدأ جيل الشباب يأخذ دوره التاريخي.
بدأ التصادم على الأرض واستمر سلمياً، على الرغم من كلّ أدوات العنف والاضطهاد. ومن أسوأ ما تفكر به الطبقة الطفيلية الحاكمة كيفية الحفاظ على مصالحها، من خلال التشبّث بالسلطة
“ليس للشعب العراقي، وبفعل حرمانه الجمعي، إلا الثورة في محاولة بطولية لاسترداد الكرامة المفقودة”بنظرتها الدونية إلى جيل جديد يبحث عن ذاته المقهورة، وهويته الضائعة، ووطنه المستلب، وعيشه البائس، وحياته التعيسة إزاء قوى سفيهة وجاهلة، تستحوذ على كلّ الموارد والمناصب، وتنعم بالملذات وتهريب المليارات. والحكومة لا تلبّي أية طلبات شعبية، حال حكومات فاسدة أخرى سبقتها.. سيكون رد الفعل قويا، وهو يحمل صفة التذمر والغضب والإحباط النفسي والاكتئاب وفقدان معنى الحياة والشعور السلبي إزاء المستقبل، فضلا عن فك العلاقة المترسخة بين المجتمع وعناصر هذا النظام وحماته من رجال الدين ومرتزقة المليشيات. وأكبر منجز حققته هذه الثورة السلمية يتمثل بتعرية هذا النظام السياسي وكشف مفاسده.
وقد جاء في واحد من التقارير المهمة أن الثقة قد تزعزعت بين الشعب وهذا النظام، ليقتصر المؤيدون على 15% من نسيجهم الاجتماعي عن ثقتهم بالبرلمان والقضاء والحكومة، كما تقلّصت ثقة الشباب الشيعة بالمؤسسة الدينية ومرجعيتهم، بعد أن كانت أقل من 40%.. أما الاستثناءات، فنجدها مفضوحة من خلال النظام وأجهزته القمعية وكلّ المنتمين للمليشيات التي تتحكم بأمن البلاد..
بغباء كبير، واجه النظام كلّ المتظاهرين بحملة من القمع والاضطهاد، واستخدام النار والغازات السامة، ما كثّف الغضب الشعبي وإصرار الناس في المضي نحو إسقاطه، مهما بلغت الأثمان، وعزّز الشعور الوطني العام بسوء عمل الحكومة والبرلمان، وسوء قراراتهما وسياساتهما الفاشلة بالضرب العشوائي، أو القنص الماكر ليسقط مئات القتلى، وآلاف جرحى، وهم يحملون الأعلام العراقية، ما أشاع شعوراً بالتمكين والثبات والوحدة الوطنية اجتاح كلّ العراقيين، وغدا عاملاً رئيسياً في تفاقم النقمة والغضب ضدّ النظام كله، وتصاعدت بسببه موجات الاحتجاجات في داخل العراق وخارجه.
اليوم، ثمّة مطالبات بمحاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين المدنيين ومعاقبتهم، فضلا عن محاسبة أركان النظام الكبار والصغار على ما اقترفوه من جرائم وجنايات. ويقضي الإجماع بتأسيس حكومة مؤقتة، وإلغاء العملية السياسية الحالية والدستور، والبدء بحياة سياسية جديدة ونظيفة.
العربي الجديد