وحّدت التظاهرات العراقيّين إلى حدّ ما. ولا يبدو أن هذه مجرّد كلمات جميلة، إذ أن كثيرين، حتى أولئك العاجزين عن التوجه إلى بغداد، يدعمون أهلهم هناك، سواء بالتبرعات أو الغذاء أو حتى الصلوات
يُجمع العراقيّون في مختلف المدن على أن التظاهرات بدأت تحصد ثمارها مبكراً، خصوصاً لناحية تعزيز الهوية الوطنية العراقية، والتضييق على ما يسمّونه “دكاكين الطائفية السياسية” التي عرفوها بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003. ومنذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يتفاعل سكان مدن شمال وغرب العراق مع تظاهرات الجنوب على نحو واسع ومتصاعد، على الرغم من أنهم يعيشون في مدن مدمرة ومن دون خدمات. ومنذ تحرير المحافظات الغربية والشمالية من سيطرة تنظيم داعش، ما زالت هذه المناطق تعاني الحرمان والتردّي المعيشي والحكم العسكري الذي تفرضه قوات الجيش والحشد الشعبي، ما يجعلهم عاجزين عن التفاعل مع التظاهرات، الأمر الذي دفعهم إلى تنظيم حملات تبرع وإرسال الطعام وإقامة أمسيات تأبين للضحايا.
يتوجّه الشباب والقادرون من أهل هذه المناطق إلى بغداد، وتحديداً إلى ساحة التحرير، للتعبير عن مواقفهم، على الرغم من أنهم لا يبقون سوى ساعتين أو ثلاث في الساحة قبل العودة إلى الديار، كون الجيش يمنع الدخول والخروج منها وإليها بعد الثامنة مساء. يقول الطالب الجامعي معاذ عبد اللطيف، الذي جاء من مدينة الموصل برفقة مجموعة من أصدقائه، لـ “العربي الجديد”، إنّ أصدقاءه وأقاربه تبرّعوا بمبلغ من المال دعماً للمتظاهرين، مضيفاً: “قدمنا إلى ساحة التحرير، ومعنا أدوية وضمادات. نعرف أنها لا تعني شيئاً، لكن أردنا أن نبلغهم أننا معكم. ولدى وصولنا ذهلنا من طريقة استقبال الشبان لنا عندما علموا أننا من الموصل”.
يضيف: “بكينا جميعاً من دون أن نعلم السبب، لكن شعرنا بأننا كنا قد أضعنا الوطن، قبل أن نجده الآن في ساحة التحرير”. ويوضح: “قال لنا أحد المتظاهرين إن الموصل أحوج منا إلى المال، وسنجمع تبرعات لتعودوا بها إلى الديار. رفضنا لأننا خجلنا أن يكون الأمر على هذا النحو”. يضيف أنهم عادوا إلى الموصل وأقاموا حفلاً تأبينياً لشهداء التظاهرات، وفتحوا بثاً مباشراً مع متظاهرين في كربلاء، “وكان ذلك مثل موجة بحر غسلت أوساخ كل خطب ومخططات ومشاريع الأحزاب الطائفية”.
تمكن المحتجون في بغداد من السيطرة على مساحة كبيرة مؤخراً لم تقتصر الحال على ساحة التحرير فقط، بعدما انسحبت القوى الأمنية مانحة المتظاهرين حرية أكبر في التنقل لبسط وجودهم في مواقع أخرى على امتداد ساحة التظاهر.
إلى ذلك، عمدت مجموعة كبيرة من المتطوعين إلى توزيع صناديق تحتوي على الفاكهة في ساحة التحرير. ليث حميد، الذي تفرّغ لـ “خدمة المتظاهرين” على حدّ قوله، يؤكد أن عشرات الأطنان من الفاكهة توزع يومياً، علماً أن نسبة كبيرة منها هي تبرع من سكان محافظات أخرى. يضيف: “شاركت في توزيع أجود أنواع الفاكهة التي كانت محملة في سيارات، وقد تبرع بها أشخاص من الأنبار. لا أحد يعلن عن نفسه أو يعرف الآخرين من أين هو حين يقدم خدمة أو يتبرع بشيء ما. لكن لأنني أشارك في توزيع الأطعمة والفاكهة، أتعرف على أصحابها. لذلك، أعلم أن مساعدات مختلفة تقدم إلى المتظاهرين من مدن أخرى مثل الأنبار وكركوك وصلاح الدين وتكريت والحويجة والشرقاط”.
ليث الذي تخرّج قبل عامين من الجامعة، يقول لـ “العربي الجديد” إن زملاءه من “سكنة الغربية”، الذين كانوا معه في الجامعة، تواصلوا معه منذ انطلاق التظاهرات. ويؤكد أن بعضهم جاء وشارك في التظاهرات، وتبرع بمواد طبية وغذائية، وتعرض عدد منهم للإصابة من جراء العيارات النارية والقنابل المسيلة للدموع التي تطلقها قوات الشغب. ويُطلق العراقيون اسم “الغربية” على المناطق التي تقع غرب البلاد، وهي مدن الأنبار، وتندرج ضمن التسمية مدن في صلاح الدين والموصل أيضاً.
من جهتها، تقول ضحى البدري، وهي متطوعة في مجال العمل الإغاثي، لـ “العربي الجديد”: “شاركت في حملات إغاثية في المحافظات المتضررة من تنظيم داعش منذ تحريرها”، مؤكدة أن هذه المدن في حاجة إلى مليارات الدولارات لإعادة تأهيلها.
تتابع أن “سكان هذه المدن هم الأكثر حاجة للمساعدة، خصوصاً أن غالبية بيوتهم تضررت، وفقدوا ممتلكاتهم وأعمالهم، وهناك من هدمت محالهم، ومنهم من خسروا بضائعهم وتجاراتهم ومزارعهم وماشيتهم”.
وكان تنظيم “داعش” قد تسبب بنزوح أعداد كبيرة من سكان المناطق التي سيطر عليها، وأدّت المعارك بهدف تحرير هذه المناطق من سيطرته إلى خسائر فادحة في الممتلكات العامة والخاصة، لا سيما أن عناصره كانت تتحصن داخل الأحياء السكنية. على الرغم من ذلك، تقول: “لا أستغرب حين أرى سكان المناطق المتضررة يساندون المتظاهرين ويدعمونهم بالأغذية والمواد المختلفة. الجميع يريد لهذا البلد الخلاص من الظلم، ويرغب في مستقبل أفضل لأبنائه”.
لكن ثلاثة شبان من مدينة الأنبار كانوا يجلسون على الرصيف قبالة نصب الحرية في ساحة التحرير، بعد إتمامهم تنظيف محيط الساحة بمعية شباب آخرين، يتفقون على أن مشاركة أبناء المدن المحررة من “داعش” في التظاهرات في بغداد أو بقية المدن، إنما هي بمثابة “رد للدين”. ويقول فاروق لـ “العربي الجديد” إن “من حرروا مدننا ينتمون إلى بغداد وبقية المدن. لذلك، هم أصحاب فضل علينا، فقد ضحوا بأرواحهم وجعلونا نعود إلى مدننا بسلام، بعدما هجّرنا منها داعش. اليوم، نحن نرد الدين ونساند هذه المدن بتظاهراتها”.
العربي الجديد