أمام إصرار الحكومة والمحتجين.. احتجاجات العراق إلى أين؟

أمام إصرار الحكومة والمحتجين.. احتجاجات العراق إلى أين؟

يرى مراقبون أن الاحتجاجات في العراق جزء من مشهد أشمل يضم لبنان والداخل الإيراني، وهو “ضربة قاسية” للنفوذ الإيراني في البلدين، العراق ولبنان.
تبدو الاحتجاجات في العراق ولبنان وإيران امتدادا لحملة “الضغط القصوى” الهادفة لتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة عموما، وفي الخليج تحديدا.
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات موجهة بالدرجة الأساس ضد النفوذ الإيراني في العراق لكن هذا لا يعني أن المحتجين يميلون إلى تأييد الولايات المتحدة وترجيح كفتها في التنافس على النفوذ في العراق على حساب إيران.
سيكون لأي إضعاف للنفوذ الإيراني في العراق مصلحة أمريكية في تعزيز نفوذها على حساب النفوذ الإيراني في سياق التنافس بين الدولتين في عموم المنطقة.
وحذرت المرجعية الشيعية عدة مرات من ان يتحول العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الدول المتنافسة على النفوذ والمصالح في المنطقة دون الإشارة إلى التنافس الأمريكي الإيراني.
لم تعلن أي دولة موقفا صريحا مؤيدا للاحتجاجات في العراق، سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الدول العربية، باستثناء مواقف بعض الدول والأمم المتحدة الداعية لوقف العنف ضد المحتجين.
وتتهم أوساط في الحكومة العراقية وبعض قيادات الحشد الشعبي الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية بالوقوف خلف الاحتجاجات، وهي ذات الاتهامات الإيرانية التي اعلن عنها أكثر من مسؤول إيراني، بمن فيهم المرشد الأعلى علي خامنئي.
ويميل المحتجون إلى تحميل إيران الجزء الأكبر من مسؤولية ما آلت إليه أوضاع العراق بعد ستة عشر عاما من هيمنة الأحزاب السياسية القريبة منها أو الحليفة لها على السلطة، وتدخلاتها في الشؤون الداخلية للعراق.
تتمسك إيران بالحفاظ على النظام السياسي القائم ومنع اسقاطه أو اسقاط حكومة عادل عبد المهدي التي حققت الكثير من المكاسب لفصائل الحشد الشعبي الحليفة لها.
كما ان عادل عبد المهدي يرفض حتى الآن تقديم استقالته إلا وفق شروط تبدو “تعجيزية”.
ومن ضمن استراتيجيات عادل عبد المهدي في التمسك برئاسة الحكومة، قبوله بتقديم استقالته اذا نجحت كتلتا الإصلاح والفتح في التوافق على تكوين حكومة جديدة والاتفاق على مرشح توافقي بديل، وهو الامر الذي “قد” لا يتحقق الا بالتوافق بين الكتلتين بالتنسيق مع إيران المعنية أولا بمواجهة تصاعد مشاعر “السخط” ضدها في أوساط المحتجين الذين يشكل اتباع التيار الصدري من غير المنتمين للتيار تنظيميا غالبيتهم العظمى، خلافا لقيادات التيار الذين هم جزء من بنية العملية السياسية التي يُراد الإطاحة بها.
وحتى الآن نجح عادل عبد المهدي في التمسك بالسلطة وعدم التنازل عن شرطه “التعجيزي” الذي يدرك ان الواقع السياسي المتسم بالتنافس على السلطة والموارد بين أكبر كتلتين سياسيتين في مجلس النواب لا يسمح بإرساء مثل هذه المقاربات.
لكن ذلك لا يعني ان بقاء عادل عبد المهدي في السلطة أمر حتمي طالما ان ذلك محكوم بالتوافقات الدولية بين الولايات المتحدة وإيران، وإصرار المحتجين على البقاء في الساحات وتعطيل الحياة العامة لأطول فترة ممكنة.
لذلك يراهن عادل عبد المهدي في تمسكه بالسلطة على شرطه “التعجيزي” بإيجاد بديل توافقي وحكومة جديدة تسبق تقديم استقالته، وعلى عامل الوقت ومواصلة الاحتجاجات التي هي الأخرى رهن باستمرار وصول الدعم المالي والمساعدات الغذائية والخيم والبطانيات مع قدوم فصل الشتاء، بالإضافة إلى قدرات المحتجين على تعويض خسائرهم جراء انقطاعهم عن ممارسة أعمالهم اليومية التي يتقاضون عنها في الغالب أجورا يومية لمعيشتهم وإعالة أسرهم.

وتحاول قوى شريكة في العملية السياسية، مثل التيار الصدري، الذي هو جزء من السلطتين التنفيذية والتشريعية استثمار الاحتجاجات لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الأطراف الأخرى في السلطة بتبني مطالب المحتجين والدفاع عنهم في الساحات من خلال المئات من عناصر سرايا السلام، الجناح المسلح للتيار، الذين ينتشرون في ساحة التحرير بالعاصمة بغداد.
وبعد نحو خمسين يوميا من الاحتجاجات لا يزال المحتجون متمسكون بمطالبهم بإسقاط حكومة عادل عبد المهدي وإجراء انتخابات مبكرة بعد إجراء تعديلات جوهرية على النظام الانتخابي المعمول به في العراق، وهو أيضا أحد أهم ما تدعو إليه المرجعية الشيعية للخروج من الازمة الراهنة وتجنيب العراق الدخول في فوضى امنية تعتقد المرجعية أنها ستؤدي حتما إلى حرب داخلية.
كما ان حكومة عادل عبد المهدي لم تبد أية مرونة في ما يتعلق بقبول رئيسها تقديم استقالته استجابة لمطالب المحتجين، في ذات الوقت الذي تتمسك الأحزاب السياسية بعدم إقالة عبد المهدي من خلال حجب الثقة عن حكومته في مجلس النواب الذي تقوده كتلتا الإصلاح برئاسة مقتدى الصدر، والفتح برئاسة هادي العامري، وهي الكتلة التي تمثل الجناح السياسي لفصائل الحشد الشعبي الداعمة لحكومة عادل عبد المهدي.
ستكون عملية اقالة عادل عبد المهدي بحاجة إلى اغلبية أعضاء مجلس النواب إذا تمسك بعدم تقديم استقالته “طوعا” أو تحت ضغط الاحتجاجات أو في بعض الأحيان تحت تأثير ضغوطات دولية مصدرها في الغالب، الولايات المتحدة أو إيران التي لا تزال تعارض أي محاولة لإقالته.
للمحتجين مشاكل حقيقية معقدة مع النظام السياسي القائم والأحزاب السياسية المهيمنة على السلطة والموارد، بما فيها من فساد مالي واداري وشيوع المحاصصة السياسية المبنية على الطائفية والعرقية، وتغليب الانتماء للمكون على الانتماء للعراق ومصالحه العليا، بالإضافة إلى تردي الخدمات وسوء إدارة مؤسسات الدولة وما يتعلق بالإنفاق وهدر المال العام والبطالة وغيرها.
بعد انطلاق الموجة الجديدة من الاحتجاجات في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وعد الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي بتنفيذ سلسلة من الإجراءات المتعلقة بإقالة الفاسدين وتقديمهم إلى القضاء العراقي وتوفير وحدات سكنية للمواطنين وفرص عمل للعاطلين، مع إجراءات لإصلاح مجالس المحافظات التي هي جزء من منظومة الفساد، بالإضافة إلى مناقشة مجلس النواب تعديلات دستورية وتغييرات وزارية وقوانين انتخابات جديدة تتماشى مع مطالب المحتجين في اجراء انتخابات مبكرة.
لكن الحكومة المركزية ومجلس النواب حتى الآن لم يتخذا ما يكفي من الخطوات الإجرائية لإعادة ثقة المحتجين بتنفيذ وعودهما.
وتواجه الحكومة المركزية جملة من التحديات التي تقف حائلا دون تنفيذ وعودها حيث تفتقر إلى الأموال اللازمة بسبب الفساد “المنظم” لإعادة تأهيل البنية التحتية الأساسية وتوفير فرص العمل وإعادة اعمار المدن التي دمرتها الحرب على تنظيم داعش.
وعلى الرغم من أهمية هذه الاحتجاجات وجسامة التحدي “الوجودي” الذي يواجه حكومة عادل عبد المهدي، لكن لا تزال الاحتجاجات في مراحل نموها الأولى وسوف لن تحقق الكثير طالما افتقرت إلى “قيادة” مخولة تتحدث باسمها وتتفاوض نيابة عن المحتجين لتحقيق مطالبهم بإجراء إصلاحات جذرية بعيدة عن الحلول “الترقيعية” التي ستترك الباب مفتوحا لموجات جديدة من الاحتجاجات.

(الأناضول)