إذا صدقت الإحصاءات الصادرة عن “منظمة العفو الدولية”، والتي أفادت بأن قوات الأمن الإيرانية قتلت أكثر من مئة متظاهر منذ يوم الجمعة الماضي، فقد يكون ذلك نذيراً بمزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار الداخلي، وسيثير انتباه واشنطن والعواصم الغربية في ظل أزمة تتفاقم وسط تكتم معلوماتي شبه كامل نتيجة قطع السلطات شبكة الإنترنت. كما أن الرد الإيراني العنيف على تظاهرات سلمية عفوية خرجت احتجاجاً على رفع أسعار البنزين، يُظهر حالة الخوف الواضح داخل أروقة السلطة في طهران، ويؤكد أن استراتيجية إيران حالياً تواجه أزمة خطيرة، بعدما اشتعلت التظاهرات المناوئة للنظام في 100 مدينة إيرانية، ومن قبل ذلك في عشرات المدن العراقية واللبنانية.
استراتيجية العنف والدم
وفيما يواصل نظام طهران سياسة التعتيم على ما يجري من مواجهات دموية عنيفة في نحو مئة مدينة على امتداد إيران عبر قطع الإنترنت والادّعاء بأن قتلى المواجهات خمسة فقط، أربعة منهم من قوات الأمن، بدا أن ما كشفت عنه منظمة العفو الدولية استناداً إلى فيديوهات وشهادات موثقة حول مقتل 106 أشخاص في الأقل من المتظاهرين السلميين، سيحرك المياه الراكدة في المواقف الدولية حيال ما يجري داخل إيران، وقد يزيد الضغوط الدولية على النظام الإيراني الذي بدا عاجزاً عن استخدام أي استراتيجيات بديلة، سوى استراتيجية العنف والدماء، لإسكات الأصوات المعارضة، سواء كان ذلك داخل إيران أو على بعد مئات الأميال في العراق ولبنان.
وكان البيان الصادر عن الحرس الثوري، الذي يسيطر على قطاعات واسعة من الدولة في إيران، مؤشراً على استراتيجية واحدة، هي العنف والدم، إذ أكد أن استمرار الاضطرابات سيُواجَه بصرامة.
هل تختلف احتجاجات اليوم عن عام 2017؟
على الرغم من أن الاحتجاجات الجارية الآن تشبه التظاهرات التي اندلعت عام 2017، من حيث منطلقاتهما الاقتصادية، إلا أن تظاهرات 2017 جرت بتحريض من الحرس الثوري على أمل هزّ حكم الرئيس حسن روحاني، وفق الباحث في الشأن الإيراني في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، أليكس فاتنكا.
ويشير فاتنكا إلى أن الأمر استغرق أياماً حتى أدرك “الحرس” المُحرِّض على الاحتجاجات أنه أطلق العنان لغضب جماهيري واسع يصعب السيطرة عليه بعدما استهدف المتظاهرون نظام الحكم الإيراني بالكامل. إلا أن الاحتجاجات الحالية لا يبدو أن فصيلاً في منظومة الحكم حرّض عليها، إذ خرجت بشكل عفوي، وأصبح المرشد الأعلى علي خامنئي والنظام ككل الهدف الأساسي للتظاهرات منذ بدايتها.
الخوف داخل أروقة السلطة
ويرى جيسون ريزيان، في مقال بصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، أن الرد العنيف الذي مارسه النظام الإيراني ضد المتظاهرين الغاضبين على رفع أسعار البنزين بين 50 و200 في المئة، يُظهر الخوف الواضح والملموس داخل أروقة السلطة في طهران، رغم كل محاولات النظام لقمع التمرد الجديد وادّعاء وسائل الإعلام الإيرانية هدوء الأوضاع.
ويضيف الكاتب الأميركي أن الإيرانيين كانوا يدركون على مدى سنوات أنهم إذا اختبروا قوتهم بالنزول إلى الشارع، فإن النظام الحالي سيجابه أي احتجاجات محلية بوحشية أكبر من تلك التي استخدمها صدام حسين في العراق وبشار الأسد في سوريا ضد شعبيهما، لكن هذه الفرضية لم تُختبر أبداً على نطاق واسع في الماضي، إذ لم يصل الشعب الإيراني إلى حالة اليأس الكامل من أجل إحداث تغيير في النظام الحاكم.
الغضب الكامن ينفجر
لكن التظاهرات التي انطلقت منذ يوم الجمعة الماضي وانتشرت خلال أيام قليلة في كل أنحاء المدن الإيرانية كشفت عن غضب كامن ساعدت عوامل عدة على انفجاره، إذ تراجعت العملة الإيرانية مرات عدة خلال الأعوام الأخيرة، وشاهد الإيرانيون بأعينهم كيف تبخّرت مدخراتهم المالية وتضاءلت ميزانياتهم المعيشية، وسط تفشي الفساد في البلاد وسوء الإدارة وإهدار أموال الحكومة، وزادت العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على اقتصاد إيران الضعيف من وطأة الأزمة.
ولم يكن الإعلان عن رفع الدعم الحكومي على أسعار البنزين سوى القشة التي قصمت ظهر البعير في بلد هو الرابع عالمياً من حيث استحواذه على الاحتياطات النفطية، ما أثار الدهشة وفجّر الغضب الكامن في نفوس الإيرانيين وأدى إلى إشعال النيران في 100 مصرف و57 محلاً تجارياً، وفق وكالة “فارس” الإيرانية.
السخط في الداخل والخارج
ولعل أحد أسباب سرعة اشتعال تظاهرات الداخل الإيراني، هو ما يتابعه الإيرانيون عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في العراق المجاور من احتجاجات ضخمة ضد حكومة لا تحظى بشعبية ويتفشى الفساد بين أركانها، وهو ما يماثل الحال في إيران، والذي من شأنه أن يزيد حالة السخط بين الإيرانيين. لكن الأزمة التي يواجهها النظام الإيراني في العراق تتعلق بجزء مهم منها بالاتجاهات المعادية لإيران بين المواطنين العراقيين العاديين والحانقين من المدى الذي وصلت إليه السيطرة الإيرانية على بلدهم وحكومتهم، وهي حقيقة أكدتها ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” وموقع “إنترسبت” الأميركي أخيرا من وثائق استخباراتية إيرانية شملت 700 برقية سرية سُرّبت عبر موقع “إنترسبت”، وتكشف بوضوح تأثير إيران الواسع على العراق على مدى سنوات عبر تعاون جواسيس إيران مع قادة عراقيين والتسلل إلى كل جانب من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والدينية في العراق.
ويبدو أن استراتيجية إيران حالياً تواجه أزمة، حيث تسبب تدخلها ونفوذها على الحكومة والميليشيات العراقية الوكيلة لها في سقوط مئات المحتجين العراقيين السلميين برصاص القوات الأمنية العراقية والميليشيات التابعة لإيران، الأمر الذي فجّر الأزمة ودفع إلى ظهور حالة رفض شديدة بين الأغلبية الشيعية في جنوب العراق ضد التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية العراقية، وتمثل ذلك جلياً في حرق مقار الأحزاب السياسية العراقية المدعومة من إيران على طول المنطقة الجنوبية للعراق، الأمر الذي يؤشر إلى أن إيران أخطأت تقدير رغبة العراقيين في الاستقلال، ليس فقط من الولايات المتحدة، ولكن من إيران أيضاً.
وفي حين ظلت واشنطن تراقب ما يجري في إيران بحذر، كشف عنه امتناع الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن التعقيب بتغريداته على “تويتر” كما فعل خلال تظاهرات 2017، والاكتفاء بصدور بيان من البيت الأبيض بدعم المتظاهرين وإدانة عنف السلطات الإيرانية، فإن البعض يتوقع أن يثير قتل أكثر من مئة متظاهر حفيظة الجميع في الولايات المتحدة، رغم انشغال الأميركيين بتحقيقات اتّهام وعزل ترمب في مجلس النواب. إلا أن عدداً من المراقبين في العاصمة الأميركية ينصحون إدارة ترمب بعدم تكرار الخطأ الذي ارتكبته خلال التظاهرات التي انطلقت في إيران قبل سنتين، بخاصة وأن المرشد الإيراني اتّهم المتظاهرين بأنهم متآمرون يعملون لخدمة مصالح الأعداء في الخارج، كما أن العقوبات الاقتصادية الأميركية أسهمت بقدر كبير في هذه الأزمة، ما يجعل الموقف الأميركي يبدو مثيراً للانتقادات من بعض الدوائر الحقوقية حول العالم.
ماذا بعد؟
وتقول هوللي داغرس، الباحثة في الشؤون الإيرانية في المجلس الأطلسي للدراسات في واشنطن، إن الإيرانيين كانوا من الناحية التاريخية سريعين في التعبير عن غضبهم ومظلوميتهم، ففي عام 1979 قادت تظاهرات متواصلة استمرت شهوراً إلى إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي وتأسيس جمهورية إسلامية ظلت قائمة إلى اليوم. ومنذ ذلك الحين قيّد النظام الإيراني الحريات السياسية والمعارضة، ولم يحدث أي تحرك للتغيير، سوى في عام 2009، حين اندلعت حركة تظاهرات سياسية كبيرة على خلفية اتهامات بأن الرئيس الإيراني المتشدد وقتذاك محمود أحمدي نجاد زوّر الانتخابات.
وخلال التظاهرات التي عُرفت باسم “الحركة الخضراء”، قتلت قوات الأمن العشرات لتفشل التظاهرات في النهاية، ويواصل نجاد دورة رئاسية ثانية، حرصت خلالها الدولة الأمنية في إيران على أن تجعل الاحتجاجات السياسية أكثر صعوبة.
النار تحت الرماد
على الرغم من أن الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني قد لا يبحث عن معركة مع الناخبين قبيل الانتخابات البرلمانية المقررة في شهر فبراير (شباط) المقبل، التي ستُعد اختباراً للتحالف الذي يقوده، إلا أن مهمته ستزداد صعوبة، فالإيرانيون لم يصدقوا وعوده بإحداث تحسن اقتصادي لم يشعروا به حتى بعد الاتفاق النووي في عام 2015 ورفع العقوبات، بل أصبحت الضغوط الاقتصادية على الإيرانيين فوق الاحتمال. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الاقتصاد الإيراني سينكمش هذا العام بنسبة 9.5 في المئة نتيجة العقوبات الاقتصادية الأميركية، ولا تزال الأسئلة التي طرحها الإيرانيون منذ احتجاجات عام 2017 قائمة حتى الآن، وهي لماذا تنفق إيران مليارات الدولارات على جماعاتها السياسية وميليشياتها الوكيلة في كل من العراق ولبنان وسوريا واليمن وغزة، بينما يعاني الإيرانيون تحت وطأة الفقر والحرمان.
وإذا كان الرئيس روحاني نجح في احتواء تظاهرات عام 2017 بعدما ألغى بعض الزيادات المفروضة على أسعار السلع، فإن النظام الإيراني يبدو مصرّاً على عدم التراجع عن زيادة أسعار البنزين نظراً إلى الوضع الاقتصادي المنهار في إيران.
ويشير باحثون إلى أنه على الرغم من الرد العنيف على تظاهرات عام 2017، الذي أدى إلى مقتل 26 شخصاً وأنهى الاحتجاجات، فإن النار ظلت مشتعلة تحت الرماد، إذ واصلت مجموعات المواطنين والمنشقين المطالبة علناً بالإصلاحات السياسية والاجتماعية طوال العام الماضي. ومع تعمق الأزمة الاقتصادية في إيران، خرجت تظاهرات سلمية أخرى خلال شهرَي يوليو (تموز) وأغسطس (آب) الماضيين، قبل أن تفرقها السلطات الإيرانية باستخدام الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع ومدافع المياه، وفق تقرير منظمة العفو الدولية.
وفي موجة أخرى من الاحتجاجات، طالب المدرّسون في طهران بزيادة رواتبهم خلال شهري أكتوبر (كانون الأول) ونوفمبر (كانون الثاني)، لكن السلطات اعتقلت 23 شخصاً وسجنت 8 منهم، بحسب تقارير حقوقية دولية.
وتشير منظمة العفو الدولية إلى أنه على مدار العام الحالي، اعتقلت السلطات الأمنية عشوائياً أكثر من 7000 من المحتجين والطلاب والصحافيين والعمال والناشطين الحقوقيين، من بينهم مدافعون عن حقوق الأقليات وحقوق المرأة ومحامون.
ويحذر باحثون من أن استمرار الأزمة الاقتصادية والتشبث بسياسة العصا الغليظة في مواجهة الاحتجاجات، وعدم إكتراث النظام بإحداث أي تغيير في السياسات الإيرانية داخلياً وخارجياً، يُنذر باستمرار حالة الغليان في أوساط الشعب الإيراني، وبخاصة بين الطبقات المتوسطة والفقيرة التي لم يعد لديها ما تخسره، ما ينذر بموجات متلاحقة ومتصاعدة من الاحتجاجات ضد النظام الإيراني المستمسك بالسلطة حتى النهاية، مهما كلّف ذلك من دماء وضحايا وأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية.
اندبندت العربي