أحيا اللبنانيون الذكرى 76 لاستقلال الجمهورية اللبنانية بأجواء احتفال غير مسبوقة لأنها تناظرت مع الاحتجاجات التي تعم البلاد مطالبة برحيل كل وجوه الطبقة السياسية التي تحكم لبنان، وكان معبّرا، في هذا السياق، أن العرض العسكري في مقر وزارة الدفاع كان مختصرا فيما كانت شوارع العاصمة ومدن أخرى ممتلئة بالمتظاهرين المطالبين بـ«الاستقلال الحقيقي» وذلك بإسقاط السلطات الفاسدة التي أثقلت الجمهورية اللبنانية بعبء عجز مديونية قياسيّ وبتبعيّة بائسة لقوى إقليمية وأجنبية وبمحاصصة حزبية توزع الرشى والمنافع على الموالين والمتنفعين بعد حرب أهليّة مديدة قسمت الشعب إلى طوائف مما أضعف الانتماء الوطنيّ وهشّم معنى الاستقلال المتعارف عليه عالميا.
غير أن هذا ليس حال اللبنانيين فحسب، بل هو حال شعوب عربيّة عديدة تبدو في حال أحوج بكثير إلى الاستقلال الحقيقي. لقد اعتبرت اغلب الشعوب العربية أنها حصلت على استقلالاتها، وقد خاض بعضها، مثل الجزائريين، حروبا هائلة مع بلدان الاستعمار لنيل استقلالها الدامي، واعتقدت الشعوب العربية، في مجملها، أنها نجحت في تنصيب حكومات وطنيّة تعهدت بتنمية البلاد والخلاص من إرث الاستعمار والعدالة الاجتماعية بين المواطنين.
كانت دول الاستعمار توظف اقتصادات تلك البلدان لصالح اقتصاداتها، وتتلاعب بسياسييها وتوظف عملاءها وتحرّك جيوشها وأجهزة أمنها لقمع وضبط تلك الشعوب، وما أن جاءت دول الاستقلال الموعودة حتى فوجئت شعوب عربية عديدة بنخبها الحاكمة الجديدة، وخصوصا منها التي جاءت بانقلابات عسكرية رافعة شعارات كبرى لتوحيد بلدان العرب المجزأة، ونشر العدالة الاجتماعية، وتحرير فلسطين الخ…
لقد تعاملت تلك النخب الجديدة مع بلدانها كدول محتلة، ومع مواطنيها على أنهم طبقة من الدرجة الثانية، واستبدلت رسالة الحضارة التي ادعت دول الاستعمار أنها جاءت بها، بأيديولوجيات فضفاضة وزاعقة لإخفاء عملية النهب الكبرى التي بدأت، والفساد العظيم الذي مورس، والثروات الهائلة التي سرقت من ميزانيات الصحة والتعليم والبنى التحتية، والأجهزة العسكرية والأمنية التي وظفت في القمع والبطش والتعذيب والقتل، ومحو أي معنى للقضاء النزيه والحوكمة العادلة والإعلام الحرّ، وفوق كل ذلك فقد عادت أشكال جديدة من الاحتلال المباشر من قوى خارجية وإقليمية، كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن، من دون أن ننسى الاحتلال الاستيطاني البشع والمستمر لإسرائيل، التي تحوّلت جزءاً من المعادلة العربية، وحاميا لهذه الأنظمة الطاغية والفاسدة، بعد أن كانت الحجة التي تم الاستيلاء بها على السلطة في عدد من بلدان الطوق.
القدس العربي