تناول بشار الأسد في مقابلته الأخيرة مع قناة “روسيا 24” ووكالة “سبوتينك” جملة من الموضوعات بأسلوبه الإنشائي الديماغوجي المعهود. وهي مقابلة أخرى تأتي في سياق إثبات الوجود والقدرة على الفعل، وذلك في وقت بات فيه القريب والبعيد على قناعة بأن القرار السوري أصبح خارج أيدي السوريين سواء في النظام أم في المعارضة الرسمية. فالدول هي التي تقرر، وهي التي تتوافق، وتعلن الاتفاقيات بعيداً عن معرفة وإرادة السوريين، كل السوريين من دون أي استثناء.
ولكن الأسد يبدو أنه لا يعيش الواقع كما هو، بل يصوره كما يحلو له أن يكون؛ أو ربما بتعبير أدق، كما ينسجم مع تمنياته ورغباته. فهو ما زال يجتهد في إعطاء انطباع خادع مضلل، مفاده أن نظامه هو الذي يقرر في نهاية المطاف؛ وبأنه يمتلك استراتيجية متكاملة لمعالجة مختلف الملفات، من إعادة الإعمار إلى مكافحة الفساد، وموضوع تراجع قيمة الليرة السورية، إلى الوحدة الوطنية، وصولاً إلى التلويح بخيار المقاومة لإخراج الأمريكان من البلد، وكذلك الأتراك، وذلك اعتماداً على الدعمين الروسي والإيراني، وربما الصيني؛ واقتداء بما فعله مع النظام الإيراني في العراق.
وكان اللافت في هذه المقابلة هو حصول الموضوع الكردي على حيز كبير من النقاش قياساً إلى الموضوعات الأخرى، وبدا واضحاً أنه كان يمارس التضليل المقصود، والهدف هو مغازلة مختلف الأطراف، ليسوّق نفسه بوصفه الحريص على وحدة سوريا وسيادتها، وهو الذي تسبب في مقتل نحو مليون سوري، كما تسبب في تدمير سوريا وتهجير أكثر من نصف شعبها، وفتح البلاد أمام الميليشيات، وجيوش الدول، وكل شذاذ الآفاق.
ومن المغالطات التي جاء بها من أجل تأليب السوريين بعضهم على بعضهم الآخر، قوله إن نسبة الكرد في شمال شرق سوريا، أي شرق الفرات، هي في حدود 30 في المئة، وذلك في توجه قصدي، الغاية منها إثارة العرب والكرد معاً، وإشغالهم بنسب لا تستند إلى معايير واضحة علمية، ولا إلى إحصائيات دقيقة يمكن القيام بها في بيئة محايدة آمنة، وبإشراف دولي.
فهو يبني نسبته استناداً إلى عدد السكان في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، ولكن من دون أن يفصح عن ذلك، أما الغاية فهي التضليل ليس إلا. فلم يقل أحد بأن الكرد هم الأغلبية في هذه المحافظات الثلاث، وإنما الحديث يتمركز عادة حول محافظة الحسكة، والمناطق الشمالية منها تحديداً، هذا مع الإشارة إلى وجود كردي في محافظة الرقة نفسها سواء في الريف أم في المدينة، وكذلك في دير الزور المدينة. فالمدن والبلدات الكردية تقع في المناطق الحدودية مع تركيا، وهي تتسم بغالبية كردية لا يستطيع أحد أن يشكك فيها، إلا إذا لجأ إلى تخريجات منذر الموصلي في وقت ما، حينما كان مع غيره من كتبة النظام يزعم بان الوجود الكردي في سوريا لا يتجاوز الـ 300 ألف، معظمهم ممن نزحوا، وفق مزاعم السياسة الرسمية، بعد ثورة الشيخ سعيد عام 1925.
من جهة أخرى، يتفضل الأسد في مقابلته المعنية هنا على الكرد بقوله إنهم قد عاشوا معه على مدى عقود، متجاهلاً، أو جاهلاً حقيقة أنهم قد عاشوا في مناطق سكناهم الحالية منذ العصور التاريخية المعروفة، وأن ما فرض عليهم، وعلى المنطقة من تقسيم بعد الحرب العالمية الأولى، لم يكن بيدهم أو بإرادتهم. كما أنه لم يكن بإرادة شعوب المنطقة، ولكن الأنظمة التي تسلمت الحكم بعد رحيل الاستعمار تصرفت كقوة استعمارية أبشع، وتعاملت مع الوطن كله وكأنه مزرعتها، كما تعاملت مع الناس بكل مكوناتهم وانتماءاتهم وكأنهم أقنانها، خاصة في ظل الأنظمة العسكرية الثوروية التي انكشفت عوراتها تباعاً.
أما موضوع النزعة الانفصالية التي يتهم بها الأسد الكرد، فهو يعلم قبل غيره أنه لا توجد أية قوة سياسية كردية من كرد سوريا تطالب، أو طالبت بالانفصال. فالكل كان يطالب برفع الظلم، والاعتراف بالحقوق ضمن الوطن السوري. ولكن الدعوات الغريبة جاءت مع دخول حلفائه من حزب العمال الكردستاني الذي استثمر فيه النظام في عهد الأسد الأب كثيراً، ولم تنقطع الصلات معهم في عهد الأسد الابن الذي يشير إلى ذلك في سياق مقابلته التي نتناولها هنا. فهؤلاء أدخلهم بموجب عقد تسليم واستلام بهدف واضح لا يستطيع أحد أن يشكك فيه، يتمثل في حرص النظام على إبعاد الكرد عن أي تفاعل مع الثورة السورية، وذلك بعد سلسلة المظاهرات المكثفة التي شهدتها مختلف المدن والبلدات في المناطق ذات الغالبية الكردية، وعبّر الكرد من خلالها عن دعمهم للثورة، وتأكيدهم أن المجتمع الكردي هو جزء من المجتمع الوطني السوري، وان قضيتهم هي قضية وطنية على مستوى البلاد.
ولكن النظام قد جلب كوادر الحزب المعني، وكان شرطه أن تكون القيادات صاحبة القرار من أعضاء حزب العمال الكردستاني، ومن الكرد غير السوريين، وذلك منعاً لاحتمال حدوث أي تفاعل بينهم وبين الحالة السورية العامة. وحينها بدأ الحزب المذكور بتسويق مصطلحاته الاستفزازية، وإعلاناته حول الدستور والكانتونات، ومن ثم الفيدرالية، وكلها كانت مجرد هياكل تضليلية تغطي على الوجود الفعلي للنظام في المناطق المعنية، وتموّه وضعية التنسيق المستمر بين الجانبين.
وما يُستنتج من المقابلة المشار إليها، هو أن الأسد متيقن من تطبيق بنود الاتفاق الروسي-التركي بخصوص المنطقة المعنية، ويبين بوضوح أبعاد الدور الروسي في ترتيب الأوضاع بينهم وبين حزب الاتحاد الديمقراطي.
وفي اجابته عن سؤال خاص بالحقوق الثقافية للكرد، حاول الأسد أن يظهر نفسه في مظهر الحريص على وحدة سوريا ومنعتها، فقارن بين الوجودين الأرمني والكردي، ليقول بأننا قد اعترفنا للأرمن بحقوقهم الثقافية، ولكننا لم نقر بذلك للكرد نتيجة الخشية من الانفصال، علماً بأن الكرد، ومنذ البداية وحتى الآن، لم يطالبوا بالانفصال، وإنما طالبوا بحقوقهم القومية المشروعة التي حرمهم منها نظام الأسد الأب، وقبله نظام البعث والأنظمة العسكرية القوموية الثوروية. بل فُرضت عليهم جملة من المشاريع التمييزية، منها الإحصاء والحزام والإجراءات الاستثنائية، وإبعاد الشباب الكرد عن كليات الجيش والشرطة، وإقصاء الطلبة الكرد عن البعثات الدراسية سواء الداخلية منها أم الخارجية، وحرمان المناطق الكردية من أية مشاريع تنموية بل جعلها مرتعاً للنهب والسلب من قبل الأجهزة الأمنية والإدارية. أما المقارنة بين الوجودين الأرمني والكردي في سوريا فهي مقارنة لا تراعي مطلقاً حقوق التاريخ والجغرافيا والحجم السكاني، وهي مقارنة هدفها التضليل والإيقاع بين المكونات السورية.
أما الأمر الآخر اللافت في المقابلة، فهو انطلاقه من مقدمات فاسدة تعامل معها وكأنها وقائع وحقائق لا تقبل الشك، فقد اعتبر النظام الفيدرالي والحكم الذاتي من المشاريع الانفصالية، وبناء على ذلك استخلص نتائجه الفاسدة التي لا تستقيم مع المعطيات الموضوعية، ولا تدعمها أية وقائع من تجارب كل المجتمعات التي تبنت النظام الفيدرالي، أو تلك التي منحت مناطق معينة حكما ذاتيا مراعاة لظروف وشروط خاصة بها. فالفيدرالية والحكم الذاتي لا يتعارضان مع السيادة الوطنية، ولا يفتحان الطريق أمام أي انفصال بصورة حتمية كما استخلص ذلك الأسد بناء على مسلماته هو وليس الوقائع الملموسة، بل على العكس يعززان الثقة، ويساعدان على تجاوز الكثير من المشكلات الناجمة عن السياسات الخاطئة والنزعات القوموية المتشنجة. أما النظام المركزي الصارم فقد أثبت فشله الذريع، ولن يقبل به معظم السوريين، وليس الكرد وحدهم، بعد كل الكوارث التي يتحمّل نظام الأسد مسؤوليتها الأساسية.
ورأس النظام يعتبر نفسه الدولة، ويبين صراحة أن كل ما يجري حول الدستور أمر لن يغير من واقع الحال شيئاً، فالدساتير، وفق منظوره المنفصم عن الواقع، يتم تعديلها من فترة إلى أخرى وفق المعطيات والمتغيرات. أما الانتخابات فهي مسألة سورية داخلية سيادية لا علاقة للمبعوث الدولي أو غيره بها، هذا في حين أن الهيئة الانتقالية قد أصحبت بالنسبة إليه في خبر كان، بعد النجاح الروسي في إلغاء مفعول بيان جنيف 1 عبر بيان سوتشي.
والأنكى من هذا وذاك، هو التفهم الذي أبداه الأسد للحركة الشعبية في كل من لبنان والعراق، ولكن الوضع في سوريا دائماً مختلف بالنسبة إليه. ولا نعلم ماذا سيقول بعد اندلاع المظاهرات الشاملة في إيران ذاتها، وهي المظاهرات التي لم تكن قد بدأت وقت المقابلة التي ذكر فيها ان عملية إعادة الأعمار ستبدأ بدعم روسي وإيراني وصيني، ولكن الثورة المتجددة للشعوب الإيرانية أكدت مجددا أن إيران نفسها تعاني من ضائقة اقتصادية، وتحتاج إلى من يساعدها.
مقابلة بائسة، تثبت أن صاحبها، بعد أن تسبب في كل هذا القتل والتهجير والتدمير، قد وصل إلى حالة انفصامية كاملة عن الواقع، وكل ما يهمه هو أن يستمر في الحكم وبأي ثمن.
ولكن الحركة المستمرة لشعوب المنطقة، خاصة في العراق ولبنان وإيران، وقبل ذلك في السودان والجزائر، تبين أن هذه الأنظمة قد باتت وبالاً على شعوبها وبلدانها، وأن المحنة مهما طالت، فإن كابوس الاستبداد والفساد سيزول عاجلاً أم آجلاً بفضل إرادة الشعوب المتجددة.
القدس العربي