بغداد – استبعدت مصادر سياسية عراقية أن تؤدي استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي من رئاسة الحكومة، إلى إعادة حشود المتظاهرين في المدن العراقية إلى منازلهم.
واعتبرت المصادر بعد ساعات من إعلان عبدالمهدي اعتزامه تقديم الاستقالة للبرلمان العراقي، أن الاحتفالات المرحبة بخبر الاستقالة في ساحات التظاهرات لا تعني بأي حال من الأحوال نهاية قريبة لانتفاضة العراقيين التي بلغت يومها الخمسين إثر ارتفاع عدد الضحايا في مدن الناصرية والنجف برصاص القوات الحكومية والميليشيات التابعة لها.
وقالت المصادر في تصريح لـ”العرب”، “إن مشكلة الأحزاب المشكّلة للحكومة العراقية بدأت الآن في ما بينها لاختيار بديل يحظى بموافقة إيران أولا ومن ثم مرجعية النجف ثانيا”، مستبعدة أن تتراجع مطالب المتظاهرين الداعية إلى حل الحكومة والبرلمان ومجالس المحافظات وإجراء انتخابات جديدة بشفافية عالية.
وأضافت “ستكون المفاجأة التي شكلتها استقالة عبدالمهدي بمثابة صدمة لتلك الأحزاب إذا ما ووجهت بسخرية المحتجين واعتبارها حدثا ثانويا مقارنة بالمطالب التي تم رفعها منذ بداية الاحتجاجات وسقط المئات من القتلى بسبب التمسك الشعبي بها. حينها ستكون الاستقالة أشبه برمية فاشلة”.
المتظاهرون قلبوا وجه الحكومة
فاروق يوسف: الاستقالة فقرة تهدئة تعيد ربط النظام بولاية السيستاني
ولم يجد عادل عبدالمهدي بدا من التقدم باستقالته من منصبه، بعد نحو شهرين من الاحتجاجات الشعبية الواسعة ضد النظام السياسي الذي يمثله.
وتقدم عبدالمهدي باستقالته بعد ساعات من خطاب للمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، دعا خلاله البرلمان، الذي انبثقت هذه الحكومة من رحمه، إلى أن يعيد النظر في خياراته، مشيرا إلى أن الحكومة، من دون تسميتها، عجزت عن مواكبة تطورات الشهرين الماضيين.
وبلغ ضغط الاحتجاجات على السيستاني ذروته، عندما انتقلت التظاهرات إلى معقله في النجف، حيث قتلت قوات الأمن 12 من المحتجين يوم الخميس، بالتزامن مع مجزرة ارتكبتها قوات نظامية وميليشيات موالية لإيران ضدهم في مدينة الناصرية، حيث قتلت منهم 47، ما فجر غضبا شعبيا كبيرا، يبدو أن المرجع الأعلى وضعه في اعتباره قبل خطاب الجمعة.
ولا يتضمن الدستور العراقي نصا يشرح المسار القانوني الذي يلي استقالة رئيس الحكومة، بل يتحدث عن الإقالة بعد الاستجواب، لذلك أعقب إعلان عبدالمهدي عن قراره جدل واسع بشأن الترتيبات التي يجب أن تحدث في الأيام القليلة القادمة.
ويدفع مكتب الرئيس العراقي برهم صالح تجاه تفعيل المادة 81 من الدستور التي تنص على أنه في حال خلو منصب رئيس الوزراء لأي سبب من الأسباب فإن الصلاحيات التنفيذية تتحول إلى رئيس الجمهورية، على أن يكلف مرشحا بتشكيل الحكومة خلال 15 يوما.
لكن مكتب عبدالمهدي يقول إن المادة 64 من الدستور هي النافذة الآن، وتنص على تحول الحكومة إلى تصريف الأعمال إلى حين التصويت على الحكومة الجديدة في مدة لا تزيد على ثلاثين يوما.
وبعيدا عن الجدل القانوني، تبدو طهران هي المتضررة حتى الآن، إذ خسرت حليفها عبدالمهدي الذي كان يستميت في الدفاع عن مصالحها أمام رغبة المحتجين الذين رفعوا علنا شعار “إيران برا برا” في دلالة على رغبتهم بالتخلص من النفوذ الإيراني.
وفضلا عن عبدالمهدي، فقد خسرت إيران أيضا مدير مكتبه أبوجهاد الهاشمي، الذي ظهرت استقالته إلى العلن بالتزامن مع استقالة عبدالمهدي.
ويوصف الهاشمي بأنه رئيس الوزراء الفعلي نظرا لنفوذه الهائل، والدعم الكبير الذي يحظى به من الحرس الثوري الإيراني.
لكن مراقبين يقللون من قيمة تأثير الشخوص في النظام السياسي العراقي، المصمم خصيصا لحماية النفوذ الإيراني، لاسيما في ظل وجود برلمان تتحكم فيه قوى سياسية خاضعة لطهران، ما يعني أن إنتاج رئيس وزراء جديد موال لإيران هو مسألة وقت ليس إلا.
ويبدو أن المحتجين العراقيين في الساحات، يدركون هذا الواقع، لذلك رفعوا مبكرا شعار تغيير النظام السياسي برمته، لا استبدال رئيس وزراء بآخر. وبرغم أن المتظاهرين في ساحة التحرير احتفلوا مؤقتا باستقالة عبدالمهدي، إلا أنهم سرعان ما عادوا إلى رفع شعار تغيير النظام.
وقال متظاهرون في بغداد لمراسل “العرب” إنهم باقون في ساحة التحرير إلى حين تشكيل حكومة انتقالية من خارج الطبقة السياسية الحالية وحل البرلمان الذي يمثل جميع الأحزاب الفاسدة.
ومن غير المرجح أن تحد الخطوة التي اتخذها رئيس الوزراء من موجة العنف التي تضرب مناطق جنوب العراق، حيث التقاليد العشائرية، بعد مقتل وجرح عدد كبير من أبناء تلك العشائر.
وللمرة الأولى، يضمّن السيستاني خطابه إشارة إلى أنه يقف إلى جانب الشعب، ولا يملك إلا تقديم النصح، وهو رد غير مباشر على الذين يطالبونه بالتدخل علنا لإزاحة الطبقة السياسية.
ويعتقد المراقبون أن السيستاني بتخليه عن حكومة عبدالمهدي إنما يفسح لنفسه مجال المناورة في سبيل العمل على حماية النظام السياسي.
وبدا هذا واضحا في قول السيستاني إنه “بالنظر إلى الظروف العصيبة التي يمر بها البلد، وما بدا من عجز واضح في تعامل الجهات المعنية مع مستجدات الشهرين الأخيرين بما يحفظ الحقوق ويحقن الدماء فإن مجلس النواب الذي انبثقت منه الحكومة الراهنة مدعو إلى أن يعيد النظر في خياراته بهذا الشأن ويتصرف بما تمليه مصلحة العراق والمحافظة على دماء أبنائه، وتفادي انزلاقه إلى دوامة العنف والفوضى والخراب”.
واعتبرت هذه الإشارة دليلا صريحا على مشاركة السيستاني في حماية النظام السياسي الذي يطالب المتظاهرون منذ شهرين باستبداله، وقدموا في سبيل ذلك عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين والمختطفين.
وتمثل هذه الدعوة إيذانا من المرجع الأعلى للبدء بترتيبات تضمن انتقال السلطات داخل النظام السياسي نفسه، تحت ظل قوانين تشرعها الأحزاب المتهمة بتخريب الدولة وسرقة أموالها، فهي الضامن الوحيد لاستمرار سطوة السيستاني، حتى إذا تطلب الأمر التضحية بعبدالمهدي نفسه.
ويمكن أن تمثل هذه الأجواء، ولاسيما تشديد السيستاني على ضرورة التخلص من خطر المندسين في التظاهرات، بينة مثالية لتفكيك حركة الاحتجاج، التي بدأت تشدد ضغطها على معقل المرجع الأعلى شخصيا في مدينة النجف، وكللت ذلك بإحراق مبنى القنصلية الإيرانية فيها.
وفي النجف أرسل عبدالمهدي ضابطا برتبة كبيرة لإدارة مهام الأمن بعد ليلة احتجاج دامية قتل فيها 12 شخصا وجرح نحو 800.
وقالت المصادر إن القيادة الأمنية في النجف معقودة الآن لأحد أقارب وكيل مقرب من السيستاني، يتزعم فرقة عسكرية تضم نحو 3 آلاف مقاتل ومجهزة بالدروع.
وكثفت قوات مختلفة الانتشار في النجف يومي الأربعاء والخميس، بعد معلومات مبهمة المصادر عن تعرض السيستاني نفسه لتهديد بالقتل، وهو ما نفاه لاحقا مقربون من المرجع الأعلى.
ويعتقد مراقبون أن الموقف الإيراني هو الذي سيحسم اتجاه الأحداث في العراق خلال الأيام القليلة الماضية، وما إذا كانت مستعدة للتفريط بعبدالمهدي حاليا.
ولا يرتبط استخدام العنف لمواجهة التظاهرات بعبدالمهدي فقط على حد تعبير أوساط سياسية مطلعة، بل بالرغبة الإيرانية أيضا في الحفاظ على النظام السياسي في العراق كما هو، بغض النظر عن عدد الضحايا الذين يسقطون لهذا السبب. لذلك، فإن وجود عبدالمهدي على رأس السلطة من عدمه، لن يغير شيئا إذا ما قررت إيران المضي في قمع الاحتجاجات العراقية، لاسيما أنها تمسك بجميع أدوات صناعة القادة في بغداد، ويمكنها الدفع برئيس وزراء جديد متى شاءت.
واعتبر الكاتب السياسي العراقي فاروق يوسف استقالة عبدالمهدي واحدة من فقرات التهدئة التي تعيد ربط النظام بولاية السيستاني الدينية.
واستبعد يوسف في تصريح لـ”العرب” أن تقنع الاستقالة المحتجين، لأنهم تجاوزوها باعتبارها مطلبا قديما وهي محاولة للتأكيد على أن المرجع الديني الأعلى لم يفقد سطوته السياسية.
وقال “إذا ما كانت تلك الاستقالة تمثل خرقا في واجهة النظام فإن الأحزاب المستفيدة من استمرار النظام قد تسعى من خلالها إلى جس النبض الشعبي إزاء قدرة السيستاني على التأثير على صفوف المحتجين بعد أن فقدت المرجعية الدينية الكثير من تأثيرها”.
واستدرك بالقول “لا أحد يضمن أن المرجعية ستستفيد من استقالة عبدالمهدي كما أن الأحزاب التي تسعى إلى العودة إلى اللعبة القديمة من خلال استعمال المرجعية في تضليل الشعب قد لا تكون مستعدة لملء الفراغ السياسي بعد أن نجحت في الإطاحة بحكومة عبدالمهدي التي تمسكت إيران ببقائها”.
العرب