لا يمكن اعتبار رحيل رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، نقلة نوعية في بركان الثورة العراقية على النفوذ الإيراني، إلا إذا تم اعتبارها شرخا أوليا في نظام المحاصصة الطائفية، الذي تديره طهران.
ينبغي الآن تأجيل جميع المطالب الأخرى المتعلقة بتعديل الدستور وقانون الانتخابات مؤقتا، والتركيز على منع تنصيب دمية إيرانية جديدة ورفع سقف المطالب إلى أقصاها بشأن الشخصية، التي تتولى تشكيل الحكومة ومن تختارهم للحقائب الوزارية.
تأجيل جميع المطالب ضروري، لأن مسار تحديد الإصلاحات ومسار تنفيذها سوف يعتمد على استقلالية وكفاءة رئيس الحكومة الجديد وطاقمه الوزاري، والأهم من ذلك طريقة تعامله مع الاحتجاجات والتفاعل مع مطالبها والكشف عمن قتلوا المتظاهرين.
معظم العراقيين، إن لم نقل جميعهم، توقعوا نهاية دور عبدالمهدي منذ الخميس، حين يعد بإمكان نظام الولي الفقيه في طهران ودولة الميليشيات التابعة له في بغداد، مواجهة غضب الشارع العراقي، بعد مجزرتي الناصرية والنجف التي راح ضحيتها عشرات المتظاهرين السلميين ومئات الجرحى.
المشكلة أن أركان اللعبة لا تزال قائمة، ولم تأت الاستقالة تحت ضغط جريمة المجزرتين أو غضب الثوار والغالبية الساحقة من سكان البلاد. فحتى المحتجين المطالبين بدولة المواطنة المدنية وجهوا أنظارهم إلى خطبة الجمعة الصادرة عن المرجعية الدينية لمعرفة الاتجاه الذي ستذهب إليه الحكومة.
وجاءت الوقاحة في أقصى درجاتها، كما كان متوقعا بيان صادر من مكتب رئيس الوزراء أن قرار عبدالمهدي جاء استجابة لدعوة لتغيير القيادة أطلقها المرجع الأعلى علي السيستاني، أي أنها لم تحفل بالشارع المنتفض والمجازر التي ارتكبت منذ بداية الشهر الماضي.
وذكر البيان تحديدا أن عرض الاستقالة جاء “استجابة لهذه الدعوة وتسهيلا وتسريعا لإنجازها بأسرع وقت، سأرفع إلى مجلس النواب الموقر الكتاب الرسمي بطلب الاستقالة من رئاسة الحكومة الحالية.”
مطالب الانتقال بالعراق إلى دولة مدنية، لا تستقيم مع انتظار رأي المرجعية الدينية، رغم أن معظم من ينتظرون رأيها يقولون إن مواقفها سهّلت على الأقل قيام الطائفيين والفاسدين بهدم الدولة على مدى أكثر من 16 عاما، بل إن كثيرين يقولون إنها تبادلت الأدوار معهم لترسيخ الحكم الطائفي.
ليس في ذلك أي انتقاص من مكانة المرجعية الدينية في النجف أو الذي يتبعون توجيهاتها، فهي بنفسها تؤكد، ولو شكليا، أنها لا تسعى إلى أي دور سياسي، بل إنها تشير أحيانا إلى أنها تدعم الدولة المدنية.
احترام جميع المرجعيات الدينية لكافة الطوائف والأديان أمر مفروغ منه، لكن أي تدخل منها أو حتى انتظار رأيها في الحياة السياسية، هو سبب رئيسي لخراب العراق أو أي دولة في العالم، وهو يسيء إلى مكانتها الدينية من جهة ويقوض فرص الشفافية والكفاءة والمهنية في العمل السياسي من جهة أخرى.
ولذلك فإن اتخاذ القرارات وحدوث التحولات السياسية بناء على إشارة من المرجعية، وانتظار المطالبين بدولة المواطنة المدنية لتدخلها ينطوي على خلل فاضح ويثير أسئلة صعبة بشأن من هو الحاكم الفعلي للبلاد؟
يمكننا أن نتفهم ما نقلته الصور وتسجيلات الفيديو عن بهجة المحتجين في ساحات الاعتصام بإعلان عبدالمهدي، رغم أنها لم تأت رضوخا لإرادتهم وتضحياتهم، بل لأوامر من المرجعية الدينية.
كما أن إعلان رئيس الوزراء يشير إلى “عزمه” الاستقالة، أي أن ذلك قد يمر بانعطافات وربما مخاض عسير، لتمرر شخصية تبدو مستلقة تحظى بقبول المحتجين، مع ضمان عدم تهديد القوى المغتصبة للسلطة، والتي من المستبعد أن تستسلم بسهولة.
لذلك ينبغي تأجيل الاحتفال بتراجع قوى المحاصصة الطائفية وتركيز الجهود على جبهة واحدة للتأثير في مسار تشكيل الحكومة، وعدم تشتيتها على مطالب أخرى، ستتأثر بنتائج المطلب الأساسي.
متابعة الجدل الذي يصدر من الشبان المحتجين في الساحات وفي مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك من المراقبين وعموم الشعب العراقي من انطلاق الانتفاضة، أظهر ترجيح كفة من يحشرون حزمة شاملة من المطالب في ممر ضيق ويريدون إسقاط النظام دفعة واحدة دون التفكير كيفية تنفيذ ذلك عمليا.
وكانت الأصوات التي تدعو للتركيز على مطالب أساسية محددة مثل الكشف عمن قتل المتظاهرين، تقابل بالاستهجان. أما من يطالب باستثمار انحناء قوى السلطة لضغط الاحتجاجات وتثبيت بعض المكاسب، فكان نصيبها التخوين أحيانا.
ينبغي الانتباه إلى أن دولة الخراب الطائفي لا تتعلق بزعامات معدودة أو عشرات السياسيين أو مئات المسؤولين، بل بمئات آلاف الأشخاص الذي اغتصبوا مفاصل الدولة، بل وملايين الأشخاص الذي احتلوا الوظائف دون حق عن طريق قنوات المحاصصة الطائفية.
مصير البلاد في مفترق طرق ولا يمكن عزله عن اختناق إيران واقترابها من انهيار النظام بفعل شرارة الاحتجاجات التي انتقلت من العراق إلى المدن الإيرانية، ولذلك من الحكمة تفكيك النظام تدريجيا، لأن تهديد كل تلك القوى دفعة واحدة يمكن أن يدفع إلى فوضى شاملة.
لا ينبغي أن نتجاهل التصعيد الخطير، إذا أردنا محاجمة آلاف القطط السمان والميليشيات المسلحة للقضاء عليها دفعة واحدة، دون فتح نافذة لها للهروب، خاصة أنه لم يعد له أي مكان أو ملاذ للهرب في ظل ترنح النظام الإيراني واقترابه من السقوط.
هناك آراء متقاطعة بشأن سقف المطالب لاختيار شخصية تقود الحكومة في مرحلة انتقالية لحين وضع اللبنات الأساسية لتحقيق جميع مطالب المحتجين بالوصول إلى دولة مدنية مستقلة.
سيحرص كثيرون على الإصرار على اختيار شخصية بعيدة كل البعد عن الأحزاب الطائفية وربما شخصية معروفة بمواقفها المعادية للنفوذ الإيراني في العراق من أجل اقتلاع جميع أذنابه.
وهنا، ومن موقف عقلاني، يمكننا أن نتخيل صعوبة دورها في مواجهة عشرات الميليشيات والحيتان الكبيرة وقد تنكسر دون تحقيق الغاية التي يطمح إليها الشارع المنتفض. وقد نصل إلى مواجهات دموية خطيرة.
هناك رأي آخر يقول إن حقن الدماء وتسهيل عملية انتقالية سلسة إلى دولة مدنية، يتطلب تفكيك النظام الطائفي تدريجيا، واختيار شخصية نزيهة غير صدامية، تسمح بتثبيت قواعد طيّ مرحلة الخراب المظلمة من خلال إجراء الإصلاحات المطلوبة وفق الأطر الدستورية.
المواجهة الشاملة لا ينبغي أن تكون الأولوية القصوى، ولا حتى تحسين الخدمات وتعيين العاطلين، بل تعديل قانون الانتخابات وإصلاح مفوضية الانتخابات وتسهيل تعديل الدستوار وإجراء انتخابات عادلة ونزيهة، وقبل ذلك الكشف عن الأطراف التي قتلت المتظاهرين ومحاسبتهم.
ينبغي التركيز على أفضل السبل لتحرير البلد المختطف، وعدم الضياع في مواجهات جانبية، بعد أن قدمت ثورة الشباب وعيا جديدا مفاجئا لجميع الأجيال السابقة، وأعلنت ولادة الهوية الوطنية الجامعة في أبهى صورها.
من معجزات تلك الثورة أنها روح عراقية جامعة بلا زعامات أو قيادات، وقد فشلت جميع محاولات إظهار وجوه محددة لها. وكان في ذلك أبرز أسباب قوتها التي أرعبت الطبقة السياسية الطائفية الفاسدة.
عدم اختيار زعامات ساهم بشكل كبير في تعزيز زخم الاحتجاجات وانتصارها، لأن اختيارهم ودخولهم في مفاوضات مع الحكومة كان يمكن أن يؤدي لترهيبهم وتبديد زخم الانتفاضة.
مع ذلك لا يمكن أن نتخيل عدم وجود عشرات أو مئات الشخصيات البارزة فيها، على الأقل بسبب دورها الفاعل في التنظيم المذهل لساحات الاحتجاج الذي يمتد من العمليات اللوجستية مثل الإسعاف إلى توفير حاجات المعتصمين وتنفيذ أعمال الصيانة والتنظيف الهائلة، التي شهدتها مواقع الاحتجاجات.
ومع أن عدم ظهور قيادات أو زعامات أمر يثير الإعجاب، ويكشف عن تفاني الجميع في سبيل إنقاذ البلاد، إلا أن المرحلة المقبلة قد تحتاج لتنظيم سبل توصيل أصواتهم، التي ستفرض ملامح الخطوات المقبلة ومستقبل البلاد.
واقترح هنا اختيار محامين مستقلين، لأداء دور مؤقت ومحدد، وهو الاستماع إلى مطالب المحتجين في جميع المدن وبلورة مطالب محددة يمكن مراقبة تنفيذها، ويمكن أن يكون المحامون عراقيين أو حتى عرب أو أجانب.
وسيضمن ذلك حماية زخم الثورة عدم اندفاع المحامين للقيام بأدوار قيادية، إضافة إلى تفويت فرصة ترهيبهم والضغط عليهم لأنهم مجرد ممثلين قانونيين للثوار، تنتهي مهمتهم بنهاية المفاوضات.
العرب