من أكثر الأمور التي تلفت انتباهي في عالم الإنترنت والمواقع الإلكترونية هو الوجود المكثف والمنظم للكتائب الإلكترونية الموالية لإيران وتعليقاتها التي يعرفها جيدا كل متابع لمقالات الرأي، التي تناقش التوتر القائم في العلاقات بين السعودية وإيران.
فكرة الكتائب الإلكترونية ليست جديدة بطبيعة الحال، وتستخدمها بعض الدول والتنظيمات الإرهابية بكفاءة عالية، وفي مقدمتها جماعة “الإخوان المسلمين” التي تستثمر الكثير من قدراتها البشرية والمادية في شن هجمات إلكترونية ضد معارضيها السياسيين سواء من الدول أو الأفراد.
ومن يخضع الحالة الإيرانية في الإقليم للبحث والدراسة، يدرك أن إيران تستثمر أيضاً أموالا هائلة في مجال الإعلام بشتى تطبيقاته التقليدية منها والجديدة، كما تمول طهران شبكات هائلة من الجيوش الإلكترونية التابعة لوكلائها في دول عربية عدة، في مقدمتها لبنان والعراق. ولا شك أن استخدام الإعلام من جانب إيران في حروب النفوذ الدائرة إقليمياً مسألة بديهية، فالإعلام قوة ناعمة لا يستهان بها ضمن أدوات الجيل الرابع من الحروب.
تختلف الجيوش الإلــــكترونية في مجال الإعلام بطبيعة الحال عن الجيوش السيبرانية، التي حققت فيها إيران تقدما نوعيا كبيرا، رغم أنها كانت ضحية لواحدة من أخطر الهجمات في تاريخ الحروب السيبرانية القصيرة حتى الآن. وذلك حين هاجم فيروس “ستكسنت” منشآتها النووية عام 2010، ووجه مسؤولون إيرانيون آنذاك أصابع الاتهام نحو إسرائيل والولايات المتحدة بأنهما مصدر الفيروس الخطير، الذي قيل إنه تسلل إلى نحو ثلاثين ألف حاسوب في إيران، وكان الفيروس يبحث في الأجهزة التي يتسلل إليها عن برنامج خاص طورته شركة سيمنز الألمانية ويتحكم بأنابيب النفط والمنصات النفطية في البحر ومحطات توليد الكهرباء وغيرها من المنشآت الصناعية، وقد أسهم هذا الهجوم الإلكتروني غير المسبوق في تعطيل البرنامج النووي الإيراني وخفض عملية تخصيب اليورانيوم.
تمارس الكتائب أو الميليشيات الإلكترونية الإيرانية نوعا من الإرهاب الفكري أو الإعلامي ضد كل من ينتقد إيران
الميليشيات الإلكترونية
ويعتقد البعض أن حديثي عن الكتائب الإلكترونية الموالية لإيران على الإنترنت ينطوي على قدر من المبالغة والتهويل، ولكني أثق أن ما نعرفه من معلومات حول حجم التمويل والتجنيد في الخطط الإيرانية بهذا الشأن أقل بمراحل عما يدور في الحقيقة. فعلى صعيد المجال الإلكتروني، سواء في الإعلام أو الحروب السيبرانية، يمكن القطع بأن إيران تضع هذا المجال في صدارة أولوياتها وتراهن عليه بقوة في تحقيق أهدافها. فهي أسست مجلس أعلى للفضاء الإلكتروني منذ فبراير عام 2004، ثم طورت إيران قدراتها في هذا المجال ابتداء من عام 2010، بعد التعرض لهجوم “ستكسنت” حتى أن إيران نفسها تتباهى بأن لديها جيشا إلكترونيا يحتل المرتبة السادسة عالمياُ في هذا المجال.
ما يهمني هنا ليست الجيوش الإلكترونية بمعناها المتعارف عليه، بل كتائب إيران الإلكترونية على المواقع الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي، وهي عناصر ممولة تنتشر في عواصم عربية عدة تعمل على نشر الأكاذيب والتهجم على أي كاتب أو باحث عربي يحاول تفكيك خطط إيران الاستراتيجية في المنطقة. حيث تمارس هذه الكتائب أو الميليشيات الإلكترونية نوعا من الارهاب الفكري أو الاعلامي ضد كل من ينتقد إيران أو يفضح سياساتها تجاه الدول العربية. وينطوي هجوم هذه الميليشيات غالباً على كم واضح من الشتائم والاستفزازات والإهانات الشخصية والوطنية، وشتائم عنصرية ومذهبية، وذلك بهدف تخويف صاحب الرأي ومحاولة تحقيره ودفعه للتخلي عن إبداء رأيه والتراجع عن أفكاره خوفاً من هذه التهجمات.
اللافت في أداء هذه الميليشيات والكتائب الإلكترونية أنها تفضح نفسها بنفسها، حيث يمكن لأي باحث مبتدئ بناء استنتاجات مبدئية بشأنها من خلال أدوات تحليل مضمون بسيطة يقود إلى وجود “خط عام” للتعليقات يتضمن نوعا من “البصمة” الهوياتية، التي تنعكس بعض ملامحها في المفردات والمفاهيم ونقاط التركيز المستهدفة في التعليقات.
وتكتسب كتائب التعليقات الإلكترونية أهميتها من اعتبارين مهمين أولهما أنها تعمل على توجيه دفة التعليقات باتجاه معين ومن ثم فرض السيطرة وحجب الرأي الآخر (المؤيد) عن الظهور، ومن ثم الإيحاء للقراء بأن الاتجاه العام معارض لما ورد في هذا المقال أو التقرير، واستغلال نظريات علم النفس في صرف الأنظار عن الفكرة أو الأفكار الرئيسية الوارد في أي مقال وبناء حالة من الجدل حولها، بين مؤيد ومعارض، في محاول لنسف دعائم هذه الأفكار أو على الأقل التشكيك في صدقيتها وواقعيتها.
ما يهم في ممارسات كتائب إيران الإلكترونية أنها من أكثر الكتائب الإلكترونية انتشارا وانكشافا ونشاطا أيضا، وهي سافرة في أسلوب عدائها العنصري
والاعتبار الثاني يتمثل في التأثير نفسياً في أصحاب الآراء المناهضة لإيران ودفعهم للتخلي عن هذا التوجه تحت ضغط سيل الشتائم والسباب، التي توجهها الكتائب الإلكترونية في تعليقاتها حيث يخشى الكاتب تكرار تجربته ويفضل البقاء بعيداً، وهو تكتيك يشبه أسلوب “داعش” المسمى بـ”الصدمة والترويع” الذي ترجمه التنظيم من خلال عمليات الذبح والقتل والحرق، التي ترسل رسائل صادمة إلى الجيوش المشاركة في العمليات العسكرية ضده.
الكتائب الإخوانية
المؤكد أن كتائب إيران الإلكترونية ليست الوحيدة التي تنتشر بكثافة عبر ساحات الإنترنت وتمارس دورها في الاشتباك الإعلامي عبر المواقع الإعلامية المعروفة وشبكات التواصل الاجتماعي، فهناك كتائب “إخوانية” وكتائب موالية لمؤسسات دينية وأخرى تابعة لدول ومنظمات، وهذا أمر تصعب السيطرة عليه بعد أصبحت ساحات الإنترنت ميدانا لصراعات لا يمكن التعرف إلى أبعادها كافة.
وما يهم في ممارسات كتائب إيران الإلكترونية أنها من أكثر الكتائب الإلكترونية انتشارا وانكشافا ونشاطا أيضا، وهي سافرة في أسلوب عدائها العنصري والمذهبي، وتعمل وفق قاموس شبه محفوظ من الشتائم العنصرية ضد العرب والخليجيين تحديداً، حيث تكشف تعليقات هذه الميليشيات الإلكترونية عن عداء عنصري إيراني دفين لشعوب دول مجلس التعاون، وهو أمر متوقع وواضح في السياسة الخارجية الإيرانية، ومن ثم لا يبدو مستغربا على أداء العناصر الإلكترونية الممولة من إيران بغض النظر عن موقعها سواء في لبنان أو العراق أو غيرهما من الدول.
سالم الكتبي
صحيفة العرب اللندنية