عكست الغارة الجوية الأميركية في ليبيا يوم الجمعة الماضي، والتي دمرت معسكر تدريب تابع لمجموعة “الدولة الإسلامية” حالة القلق المتنامية في العواصم الغربية من احتمال أن يقوض امتلاك المتشددين موطئ قدم في ليبيا البلد الواحد الذي تبنى حكماً ديمقراطياً بعد اضطرابات الربيع العربي -تونس.
وكانت الضربات التي نفذتها طائرات أميركية مقاتلة من طراز أف-15 قد ضربت مجمعاً لمجموعة “الدولة الإسلامية” في مدينة صبراتة الساحلية -التي تبعد عشرة أميال فقط عن الحدود التونسية- ويعتقد بأنها قتلت نور الدين شوشان، المتشدد التونسي الذي يشك بأنه كان قد هندس هجومين إرهابيين في العام الماضي ضد السياح في بلده، كما قال مسؤولو دفاع أميركيون.
وقال الناطق الصحفي بلسان وزارة الدفاع الأميركية، بيتر كوك، للصحفيين إنه بينما شكل مقاتلو “الدولة الإسلامية” في المعسكر تهديداً للغرب، فإن “الجوار المباشر هو موضع التركيز الأكبر لهؤلاء المقاتلين” -في إشارة مرمزة إلى التهديد الذي يشكله المتشددون على تونس المجاورة. وأضاف كوك أن شوشان “يسر إمكانية انتقال مقاتلين أجانب محتملين تابعين لداعش من تونس إلى ليبيا، ثم إلى بلدان أخرى في المستقبل”.
وفي الأثناء، أصبح مسؤولو استخبارات وضباط عسكريون أميركيون رفيعو المستوى قلقين بازدياد من احتمال أن يفضي التقدم السريع لمجموعة “الدولة الإسلامية” في ليبيا إلى موجات جديدة من الضربات داخل تونس، مما قد يفضي إلى تدمير اقتصادها الهش ويخرج تجربة تونس المتبرعمة مع الديمقراطية عن مسارها.
من معقلها في ليبيا، استهدفت مجموعة “الدولة الإسلامية” صناعة السياحة الحيوية لتونس. وكانت المجموعة قد أعلنت مسؤوليتها عن هجوم شن على متحف باردو القومي في تونس في آذار (مارس) الماضي، والذي أسفر عن مقتل 23 شخصاً. كما أعلنت مسؤوليتها عن هجوم شُن على منتجع عند شاطئ البحر في سوسة في حزيران (يونيو)، والذي أفضى إلى مقتل 38 شخصاً. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، قالت المجموعة أنها فجرت حافلة تابعة للحرس الرئاسي التونسي، مما أدى إلى مقتل 12 شخصاً. وارتبط اسم شوشان بالهجومين المميتين الأولين، حيث أصدرت السلطات التونسية مذكرة اعتقال بحقه.
يقول الكاتب بروس ريدل، ضابط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق والمحلل في معهد بروكينغز، أن فرع “الدولة الإسلامية” في ليبيا “يشكل تهديداً أكيداً لتونس، وتهديداً محتملاً للجزائر”. وأضاف أن “هذه ضربة مستهدفة تقصد إلى إزالة مشكلة خطيرة محددة، وليس المشكلة الأكبر التي تشكلها الدولة الإسلامية في ليبيا”.
ومن جهتهم، قال مسؤولون محليون في ليبيا إن أكثر من 40 شخصاً قتلوا جراء الغارة الأميركية. وكانت الطائرات الأميركية المقاتلة قد ضربت منزلاً في صبراته كان قد أثار الشكوك حوله في الأشهر الماضية بسبب وصول عدة مجموعات من المقاتلين إلى المجمع، وحيث شرع المتشددون في الدخول فيما بدا تدريباً إرهابياً لشن هجوم محتمل خارج ليبيا. وقال محافظ صبراته أن الموقع كان قاعدة تابعة لمجموعة “الدولة الإسلامية” لتجنيد تونسيين وأجانب آخرين.
وكانت الغارة الجوية الأميركية الأخيرة هي الثالثة من نوعها التي تنفذ ضد “الدولة الإسلامية” وعناصر تنظيم القاعدة في ليبيا في الأشهر الأخيرة. ففي حزيران (يونيو) الماضي، قصفت الطائرات الأميركية مزرعة اعتقد بأنها كانت تؤوي المتشدد الجزائري مختار بلمختار، بينما قتلت ضربة أخرى في تشرين الثاني (نوفمبر) أبو نبيل، العراقي الذي كان يدير فرع “الدولة الإسلامية” في ليبيا.
وفي واشنطن، قال الناطق بلسان وزارة الخارجية، مارك تونر، يوم الجمعة أن الضربة كانت منسجمة مع وعد إدارة باراك أوباما “باجتثاث” كبار قادة “الدولة الإسلامية” ومعسكرات التدريب التابعة لها من كل مكان في العالم. لكن تونر قال أن العملية لم تأذن “بفتح جبهة جديدة ” في ليبيا. ولم يشأ تونر قول ما إذا كانت الولايات المتحدة قد تلقت إذناً من الحكومة الليبية المنقسمة قبل الهجوم، لكنه قال أن واشنطن أعلمت ممثلي ليبيا بالضرة مسبقاً. وأضاف: “كانت السلطات الليبية على علم بأننا على وشك تنفيذ هذه الضربات”.
وفي إشارة إلى الفراغ السياسي في ليبيا التي يسيطر عليها حشد كبير من المليشيات المرتبطة ببرلمانيين متنافسين، قال تونر أن الولايات المتحدة وحلفاءها ما يزالون يعملون لتشكيل الحكومة الوطنية في ليبيا. وأضاف: “نريد أن نرى الحكومة وهي تعيد تأسيس نفسها في طرابلس”.
وكانت مجموعة “الدولة الإسلامية” قد اجتاحت ساحل المتوسط في ليبيا من خلال استغلال غرق البلد في أتون الفوضى العارمة. ومنذ أسقطت الحرب الجوية بقيادة الناتو نظام معمر القذافي في العام 201، ما تزال ليبيا غارقة في كفاح عنيف على السلطة بين الحكومتين المتنافستين -واحدة في طرابلس وواحدة في مدينة طبرق الشرقية.
وبينما مني المركز الأساسي لمجموعة “الدولة الإسلامية” ببعض التراجعات في العراق وسورية في الأشهر الأخيرة، استولى فرع المجموعة في ليبيا على أراض بلمح البصر. وفي أقل من عام، استولت المجموعة هناك على شريط يمتد 150 ميلاً من الأراضي، بما في ذلك مدينة سرت، وشنت هجمات على مرافق نفطية وفرضت طرقها البربرية في القمع في المناطق التي تسيطر عليها.
مع كسب “الدولة الإسلامية” أرضية في ليبيا، فشل مسعى الأمم المتحدة للتفاوض من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية مراراً وتكراراً. وفي الأثناء، ما تزال واشنطن تتطلع إلى طرق تؤمن عزل تونس -وباقي شمال إفريقيا- عن نفوذ “الدولة الإسلامية”.
عندما زار وزير الخارجية الأميركية تونس في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تعهد بأن تساعد الولايات المتحدة تونس -التي كانت قد عقدت انتخابات سلمية في العام 2014- في متابعة مسارها الديمقراطي. وباعتبارها مكان ميلاد ثورات الربيع العربي، شكلت تونس “مثالاً مضيئاً لأولئك الذين يدعون بأن الديمقراطية ليست ممكنة في هذا الجزء من العالم”، كما قال كيري.
وكان مسؤولو البنتاغون قد عقدوا مباحثات في الأشهر الأخيرة مع تونس لتقديم طائرات عمودية وطائرات من دون طيار لجمع المعلومات الاستخبارية للبلد. وبالإضافة إلى ذلك، درس قادة عسكريون أميركيون خيارات عسكرية مع نظرائهم الفرنسيين والبريطانيين لاحتواء نفوذ مجموعة “الدولة الإسلامية” في ليبيا بينما ما تزال قوات عمليات خاصة أميركية وفرنسية وبريطانية وإيطالية تنفذ طلعات استكشافية على الأرض.
وعندما زار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي البيت الأبيض في العام الماضي، أعلن الرئيس أوباما أن الولايات المتحدة صنفت البلد كحليف رئيسي من غير الناتو، ممهداً الطريق أمام تعاون عسكري متصاعد ومساعدة أمنية لتونس.
وقالت تونس هذا الشهر أنها استكملت إنشاء جدار بطول 125 ميلاً على حدودها الطويلة مع ليبيا، وأن المقاولين الأميركيين والألمان سيشرعون في وقت قريب في تركيب معدات مراقبة ألكترونية. وفي هذا الصدد، قال وزير الدفاع التونسي فرحات هورشاني: “سيساعدنا هذا في حماية حدودنا وفي لجم التهديد”.
ولكن، بينما وسعت تونس تعاونها مع وكالات تجسس غربية للتصدي للمخططات الإرهابية، فإن أجهزتها العسكرية والاستخبارية الخاصة تفتقر إلى الموارد اللازمة لتعقب ناشطي “الدولة الإسلامية” في أراضيها، وفقا لما قاله محللون. كما أن ضعف اقتصاد البلد يوفر تجمعاً من المجندين المحتملين للدولة الإسلامية، وفق كريم ميزران من مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي.
وقال ميزران لمجلة “فورين بوليسي” إنه “إذا تم البت في المشاكل السياسية الليبية، فعندها يمكن إلحاق الهزيمة بمجموعة الدولة الإسلامية. أما إذا استمرت ليبيا على هذه الحال، فإن المزيد من الناس سيجدون التدريب في ليبيا ويخططون لشن هجمات في تونس وأمكنة أخرى في المنطقة”.
وكانت الولايات المتحدة قد نفذت العملية الأخيرة على الرغم من تحفظات عند بعض الحكومات الأوروبية والعربية، والتي أعربت في أحاديث خاصة عن تفضيل إرجاء أي عمل عسكري خارجي في ليبيا حتى تتوصل فصائلها المتنازعة إلى الاتفاق الذي تأخر كثيراً حول تشكيل مجلس للوزراء.
من جهتهم رحب المنتقدون الجمهوريون لإستراتيجية إدارة أوباما ضد “الدولة الإسلامية” بالضربة الجوية. وقال رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركي النائب ديفين نيونز (جمهوري عن كاليفورنيا) إنه لا تمكن مواجهة التهديد الذي تشكله “الدولة الإسلامية” من دون الاستجابة لتواجد المجموعة في ليبيا.
وقال نيونز في بيان: “إننا نأمل أن تشير الضربة الجوية اليوم إلى بداية التزام جديد من جانب إدارة أوباما بوضع ليبيا وسط استراتيجية شاملة لإلحاق الهزيمة بالجهاد الدولي”.
وفي الأثناء، ظهر قلق في صفوف زملاء أوباما الديمقراطيين من أن تكون العملية قد مثلت التزاماً بخوض حرب أوسع من دون الخوض في مناقشة عامة. وفي تغريدة على “تويتر”، قالت النائب باربرا لي (ديمقراطية من كاليفورنيا) إن الضربات في ليبيا “تمهد لفتح جبهة جديدة في حرب بلا نهاية”، وإن الدستور يتطلب من الكونغرس “مناقشة هذه الحروب المكلفة والدموية”.
عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الأردنية