آسيا أولا: التوازن من الخارج .. لماذا تنسحب أمريكا من الشرق الأوسط؟

آسيا أولا: التوازن من الخارج .. لماذا تنسحب أمريكا من الشرق الأوسط؟

4181

يحتدم الجدل داخل الأوساط البحثية الأمريكية حول كيفية تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع منطقة الشرق الأوسط التي تمر بتغييرات في أعقاب الثورات العربية عام 2011؛ كالحرب الأهلية في سوريا، وسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على أراضٍ شاسعة من العراق وسوريا، لا سيما في ظل التوجه الإستراتيجي الأمريكي نحو آسيا. وقد برز هذا الجدال بوضوح في الدراسات والرؤى الصادرة عن مراكز الفكر والمجلات الأمريكية الأكاديمية. فبينما يطرح بعض الباحثين والكتاب الأمريكيين رؤى حول السياسة الأمريكية المثلى تجاه المنطقة، أيد آخرون سياسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تجاه المنطقة، وطرحوا أسبابًا للاستمرار فيها، في الوقت الذي انتقد فيه آخرون تلك السياسة، بحسبانها أدت إلى فوضى في الشرق الأوسط، وقوّضت المصالح الأمريكية في المنطقة.

في إطار هذا الجدل، تأتي مقالة كلٍّ من ستيفن سيمون وجوناثان ستيفنسون في مجلة “الشئون الخارجية Foreign Affairs” في عدد نوفمبر/ديسمبر 2015، المعنونة “انتهاء السلام الأمريكي: لماذا يُعَدُّ تراجع واشنطن عن الشرق الأوسط منطقيًّا”، لتطرح من ناحية تحليلا حول الدافع الرئيسي وراء سياسة الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط التي تبنتها إدارة الرئيس أوباما، والذي يتمثل في التطورات السياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة، وقوضت من قدرة الولايات المتحدة على التدخل الفعال. ومن ناحية أخرى، تقدم المقالة رؤية حول التعامل الأمثل للولايات المتحدة مع المنطقة، مفادها استمرار الولايات المتحدة في الانسحاب المعتدل، بما يمثل عودة للسياسة الأمريكية المعتادة تجاه المنطقة قبل التدخلات الأمريكية الاستثنائية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية التي مثلت انحرافًا عن السياسة الأمريكية في الفترة من الحرب العالمية الثانية حتى تلك الأحداث الإرهابية، حيث تم تجنب التدخل العسكري الأمريكي المباشر.

ضعف أسس التحالفات الأمريكية بالشرق الأوسط:

على مدار نصف قرن وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، يرى الكاتبان أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط قامت على الحفاظ على الوضع القائم، ولم تتدخل عسكريًّا بشكل مباشر إلا في حالات استثنائية. وقد ساعد الولايات المتحدة في ذلك تقارب مصالحها مع مصالح حلفائها في المنطقة، مما مكنها من تحقيق مصالحها من خلال العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، بالإضافة إلى وجود عسكري معتدل. فمن ناحية، تقاربت المصالح الأمريكية مع دول الخليج العربي في الحفاظ على إمدادات النفط بأسعار معقولة، ومن ناحية أخرى وفي أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979، أصبح هدف احتواء إيران مشتركًا بين الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج. وفي أعقاب اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، تقاربت المصالح الأمريكية والإسرائيلية والمصرية. ويضيفان أنه حتى في أعقاب أحداث سبتمبر الإرهابية تشاركت الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية هدف مكافحة الإرهاب.

وفي مقالتهما، يطرح الكاتبان العديد من العوامل التي أدت إلى ضعف أسس هذه التحالفات على مدار العقد السابق، من بينها انخفاض اعتماد الولايات المتحدة على نفط الخليج، وإعطاء دول الخليج الأولوية للتخلص من نظام الأسد حتى لو من خلال مساندة الجماعات السنية المتطرفة، وضعف نفوذ بعض القطاعات المساندة للغرب في المجتمعات الشرق أوسطية كالجيوش الوطنية وصناعات النفط والتكنوقراط وغيرهم. وبالرغم من استعادة بعض هذه القطاعات لنفوذها فإن مصالحها تباينت عن المصالح الأمريكية، كالجيش المصري الذي كان يُعد أحد أعمدة العلاقات الأمريكية المصرية.

تراجع قدرة أمريكا على إحداث تغير في المنطقة:

ترى الولايات المتحدة أن هناك صعوبة في تحسين الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، كالترويج للديمقراطية الليبرالية -على سبيل المثال- في ظل الاختلال الاقتصادي والسياسي الهيكلي لمعظم دول الشرق الأوسط، والذي زاد وطأة مع الصراعات في المنطقة، ومن المتوقع أن يتفاقم مع تراجع إيرادات النفط.

وبالرغم من استمرار الولايات المتحدة كقوة عسكرية ضخمة، فإن قدرةَ هذه القوة العسكرية في إحداث تغيير في الشرق الأوسط تتراجع. ويُرجع الكاتبان ذلك إلى عدم استطاعة القدرات العسكرية الأمريكية تحقيق نصر واضح في تعاملها مع الصراعات والتهديدات التي تشهدها المنطقة، كصعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ليصبح أشبه بدولة، والحرب الأهلية في سوريا.

وبالرغم من ذلك، لا يشكك الكاتبان في قدرة العمليات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش في تحقيق مكاسب على الأرض، إلا أنهما يريان ضرورة تعزيز هذه المكاسب بالحصول على دعم الرأي العام الأمريكي، ومساندة مجموعة كبيرة من الخبراء في إعادة البناء، وقوة عسكرية مستدامة لتأمين السكان والبنية التحتية، والأهم من ذلك إيجاد حلفاء من الداخل يمكن الاعتماد عليهم. لكن لم تستطع الولايات المتحدة توفير هذه العناصر، مما أدى إلى فشلها في تدخلاتها العسكرية الأخيرة في الشرق الأوسط، كحربها على العراق عام 2003، وتدخل الناتو في ليبيا عام 2011.

ويبرر غياب العناصر السابقة -من وجهة نظر الكاتبين– عدم رغبة إدارة أوباما في التدخل العسكري في سوريا. ويُضاف إلى ذلك انخراط الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في سوريا لمساندة الأسد، مما قد يجعل التدخل الأمريكي، من ناحية، حربًا بالوكالة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. ومن ناحية أخرى، يعوق المباحثات الأمريكية مع طهران بشأن برنامجها النووي. ومن ناحية ثالثة، لن ينجح تدخل عسكري بقيادة أمريكية في سوريا في الحصول على دعم وتأييد المجتمع الدولي، خاصةً في ظل الفيتو الروسي والصيني ضد أي قرار من مجلس الأمن يسمح بذلك، بالإضافة إلى عدم تشجيع جامعة الدول العربية والناتو لمثل هذا التدخل. بل يرى الكاتبان أن أي تدخل عسكري غربي في سوريا سيؤدي إلى انتشار أكبر للجماعات الجهادية.

رؤية حول السياسة الأمريكية المثلى تجاه الشرق الأوسط:

تأسيسًا على ما سبق، بالإضافة إلى التحول الإستراتيجي الأمريكي تجاه منطقة أسيا الباسيفيك على خلفية تصاعد التنافس الأمريكي الصيني، تطرح المقالة رؤية متعددة المحاور لسياسة الولايات المتحدة المثلى تجاه المنطقة، تقوم بالأساس على تحقيق التوازن من الخارج (offshore balancing)، أي من جانب تمتنع الولايات المتحدة عن نشر أي قوات عسكرية في منطقة الشرق الأوسط كنشر قوات مقاتلة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، ومن جانب آخر، تستخدم الولايات المتحدة نفوذها لتحقيق التأثير وحماية المصالح الأمريكية. ويتم ذلك على النحو التالي:

أولا: قيام الولايات المتحدة بما أسماه الكاتبان الانسحاب الناضج، حيث يستمر الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة من خلال البقاء على القواعد العسكرية الأمريكية بنفس قواتها، وبقاء مجموعة قتالية واحدة على الأقل، بالإضافة إلى استمرار الغارات الجوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ويمكن أحيانًا نشر قوات أمريكية في حالات معينة على نحو محدود لقمع تهديد إرهابي أو أعمال وحشية على نطاق واسع، أو التعامل مع كارثة بيئية، لكن مع تجنب أي تدخلٍ عسكري بري على نطاق واسع.

وسيسمح هذا التواجد بطمأنة كلٍّ من إسرائيل والدول العربية بشأن الاتفاق مع إيران، ويمنع توسع تنظيم الدولة الإسلامية، ويُردع إيران من خرق الاتفاق بشأن برنامجها النووي، أو قيامها بتحركات لزعزعة الوضع القائم، كالقيام بتدخل بري في العراق.

ثانيًا: في ظل التراجع العسكري الأمريكي في المنطقة، لا بد من قيام الولايات المتحدة بتشجيع حلفائها بالاعتماد أكثر على قوتهم العسكرية، لكن مع التأكيد على تقديمها الدعم لهم، حتى يتم تجنب القيام بأي مغامرات عسكرية كقيام المملكة العربية السعودية بقيادة غارات جوية ضد الحوثيين في اليمن. ويرتبط بذلك ضرورة قيام الولايات المتحدة بتجنب إعاقة أولويات حلفائها وشركائها الإقليميين، حتى تتمكن من الانسحاب الناجح من الشرق الأوسط.

ثالثًا: لا بد أن تقوم الولايات المتحدة بإعادة ترتيب أولويات عملها الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط. فعلى المدى المتوسط، على الولايات المتحدة أن تتراجع عن الترويج لمزيد من الليبرالية السياسية؛ حيث أظهرت الثورات العربية في مصر وليبيا وسوريا عدم استعداد معظم الدول الشرق أوسطية في المضي قدمًا نحو الديمقراطية، وأن تدرك صعوبة التوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل وفلسطين.

لذا على الولايات المتحدة أن تُعطي الأولوية على المدى المتوسط للاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، والتوصل إلى حل سياسي للأزمة في سوريا. وسينتج عن التوصل لاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني والالتزام به تحسن العلاقات مع طهران، مما قد يمكن الولايات المتحدة من الاستفادة من بعض المرونة من قبل إيران في قضايا أخرى، كتسوية مؤقتة بين إيران والمملكة العربية السعودية، والتوصل لحل سياسي بشأن الأزمة السورية، خاصة في ظل بعض الانفتاح من قبل روسيا وإيران للتفاوض بشأن تسوية سياسية.

ويُساهم التوصل لاتفاق بشأن سوريا برعاية أمريكية في انتهاء أكبر أزمة إنسانية في العالم، واستعادة مكانة الولايات المتحدة في المنطقة، لكن الجزء الأصعب يتمثل في التوصل إلى ترتيبات مؤقتة مقبولة من مختلف الأطراف. في هذا الإطار، يطرح الكاتبان بديلين لحل الأزمة السورية؛ يتمثل الأول في إنشاء ائتلاف يتقاسم السلطة له سلطات تنفيذية يستطيع تهميش تنظيم الدولة وجبهة النصرة وغيرها، أما الثاني فتقسم فيه سوريا، وينشأ نوع من الكونفدرالية بدل الحكم المركزي في دمشق.

وفي الختام، تؤكد المقالة ضرورة المضي قدمًا نحو تراجع الولايات المتحدة عن سياسة التدخل العسكري في منطقة الشرق الأوسط التي تبنتها على مدار الأربعة عشر عامًا الماضية، والعودة إلى تاريخها الطويل من تجنب التدخل العسكري المباشر.

  عرض:هايدي عصمت كارس

  المركز الإقليمي الاستراتيجي